في إخفاق الإسلام السياسي/ حسام أبو حامد
في الثلاثينيات، بدأ التنظير الفكري لحركةٍ جديدةٍ، تعتبر الإسلام نظاماً سياسياً بالدرجة الأولى، في ضوء أبرز نظريات القرن العشرين، وكان على أبي الأعلى المودودي (الجماعة الإسلامية) وحسن البنا (جماعة الإخوان المسلمين) شرعنة ذلك في خطاب العودة إلى النصوص وروح الجماعة المؤمنة الأولى. ومنذ الخمسينيات، كان مزاج الحداثة السائد في الغرب قد رفع العلم إلى مرتبة الأيديولوجيا، مصادراً أي طريق أخرى إلى الحقيقة، فانطلقت ثورات الستينيات ضد هذه العقلانية العلمية المفرطة، وبحث الشباب عن “المجتمع البديل” في التسامي عبر المخدرات وأساليب التأمل الصوفية الشرقية وفي مختلف الأساطير. أما في الشرق، لاسيما في مصر وسورية، فكان هجوم العلمانية الجديدة على الأيديولوجيا الإسلامية على أشده. فبعد محاولة القضاء على جماعة الإخوان المسلمين، نادى جمال عبد الناصر بالثورة الثقافية لتطبيق الاشتراكية العلمية.
وكان المفكرون العلمانيون قد شنوا هجوماً على الموروث الديني التقليدي، زكي الأرسوزي، شبلي العيسمي، ياسين الحافظ، وغيرهم، ممن جمعتهم قواسم مشتركة، كان أهمها النظر إلى الدين وعياً زائفاً، والاحتجاج ضد تنكر الأصولية للتاريخ، وتحميل التقليد الإسلامي مسؤولية التخلف. في المقابل كان الإسلامويون مقتنعين أن العلمانيين حسموا أمرهم باتجاه القضاء على الإسلام، وكان عليهم القيام بثورة مضادة، والبحث عن “مجتمع بديل”.
حاول حسن البنا مساعدة النص الإسلامي على استيعاب الروح الثقافية الغربية الحديثة سلمياً، وقد اتفق والمودودي على أن أسلمة المجتمع تكون من “تحت” عبر الدعوة، والضغط على القيادات السياسية من “فوق” لإدخال الشريعة في التشريع، ولم يقبلا بالثورة إلا بعد استنفاد وسائل الضغط السلمية، أو اتخاذ الدولة، بوضوح، موقفاً معادياً للإسلام. بدأت أفكار المودودي منذ العام 1951 تنشر في مصر ليتم إعادة إنتاجها، مع تصاعد قمع السلطة الإسلاميين بصورة أكثر راديكالية، لا سيما مع سيد قطب، من خلال وحي تجربته الشخصية مع نظام عبد الناصر، ومبدأ “القطيعة” المُنظّر له في مفهومي “الجاهلية” و”التكفير”.
تاريخياً، كان الفشل من نصيب الحركات الإسلاموية التي لم تستطع أن ترسم أي معالم لمجتمع جديد، يغير من الخارطة الجيوسياسية للعالم العربي. ومع ذلك، فإن تنكرهم للتاريخ لا يكفي في ذاته للحكم على فكرهم بالجمود، فالإصلاح البروتستانتي في الغرب، والقائم على دعائم أصولية، أيضاً، كان أحد أفضل الوسائل للوصول إلى حداثةٍ سياسيةٍ واقتصادية. كما لا يمكن تحميل التقليد الإسلامي وحده جلّ أزمات العالم العربي، فالإسلام لم يكن سببا كافيا. لكن، في المقابل، لم يكن “الإسلام هو الحل”.
ربما ينبغي البحث عن عوامل الإخفاق في الفكر الإسلاموي نفسه، فهو، كفكر سياسي بالدرجة الأولى، ينتهي إلى التنكر لكل ما هو سياسي لصالح الأخلاقي. إذ يبدأ الأخلاقي في
“الفكر الإسلاموي ما أن يطرح قضية المؤسسات، إلا ويعود ليستبعدها لصالح الحديث عن صفات القادة وفضائلهم، فيؤدي تغليب الصفات الشخصية على تولي المناصب إلى الحيلولة دون بروز تفكير سياسي حقيقي في المؤسسة”
الهيمنة على السياسي، انطلاقا من الفكرة المركزية بشأن الدولة الإسلامية نفسها، فما يميز هذه الدولة عن غيرها ليس في أن غايتها هي الدفاع عن حدود البلاد، أو رفع مستوى معيشة الأهالي، وإنما في أن غايتها ترقية الحسنات التي يريد الإسلام أن يحلّي بها الإنسانية، واستنفاد جهودها في استئصال السيئات التي يريد الإسلام أن يطهر الإنسانية منها (المودودي).
وإذا كانت السلطة السياسية وسيلة أساسية وضرورية لإقامة المجتمع السياسي، فإن الفكر الإسلاموي ما أن يطرح قضية المؤسسات، إلا ويعود ليستبعدها لصالح الحديث عن صفات القادة وفضائلهم، فيؤدي تغليب الصفات الشخصية على تولي المناصب إلى الحيلولة دون بروز تفكير سياسي حقيقي في المؤسسة. أما “الأمة”، أي المجتمع الإسلامي المساواتي، فيجد تعبيره السياسي في مفهوم “التوحيد”، ما يعني إنكاراً للتباينات القومية والعرقية والقبلية والطبقية، وعدم النظر إليها معطى سوسيوسياسياً. ويجد هذا التجاوز تبريره في مفهوم أخلاقي بامتياز، فكل نفي للأمة فتنة، أي “خطيئة”.
والدعوة كوسيلة للاستيلاء على السلطة عند الإسلامويين الإصلاحيين تفترض مثالاً إسلامياً، هو سلوك النبي (ص) قولاً وفعلاً، ومن واجب المسلم، هنا، أن يحقق في نفسه مثالاً أخلاقياً، وليس سياسياً. أما الوسيلة الراديكالية، الغائبة أساسا عن أركان الإسلام الخمسة، وهي “الجهاد”، فهو في جوهره مسألة فردية وجدانية، مجالها العلاقة بين المجاهد وربه، وليس العلاقة بين المجاهد وعدوه.
بعد كل مرحلة من الفشل السياسي، كانت الإسلاموية تنزلق إلى سلفيةٍ جديدةٍ، فيتراجع المشروع الثوري أمام تطبيق الشريعة وتطهير العادات. هنا، يتراجع السياسي بحدة أمام النزعة الأخلاقية، وتتكشف التلفيقية التي ادعت التوفيق بين السلفية وحداثة سياسية. والمفارقة أن الإسلاموية، كالسلفية الجهادية، لم تفضيا إلا إلى مزيد من التشرذم والانقسام السياسي والاجتماعي في الساحتين العربية والإسلامية، والنماذج حاضرة في أفغانستان والعراق وفلسطين وسورية ومصر والسودان والجزائر وليبيا وربما غيرها، أي أنهما لم تفضيا إلا إلى ما حاول دائما الفكر الإسلاموي القضاء عليه، بوصفه خطيئة. ولكن، لا يعني هذا الإخفاق أن الإسلامويين، أحزاباً وجماعات، لن يصلوا إلى السلطة، فهذا أصبح، اليوم، في حكم الممكن وبوسائل عدة، لكنه يعني أن مأزق الإسلاموية الفكري المتمثل في هيمنة الأخلاقي على السياسي سيؤدي، دائماً، إلى الفشل في التغيير، وفي رسم ملامح مجتمع جديد.
العربي الجديد