في إنكار البعد المذهبي وتحولاته في الصراع السوري/ عماد مفرح مصطفى
أعادت “معركة الساحل” في سورية، قبل أسابيع، الجدل بشأن البعد المذهبي في الصراع الذي لا يمكن قراءته، بحكم استمراريته واستقطابه الحاد وتدخلاته الاقليمية، إلا بعدة أوجه وجوانب متباينة، اقتصادية واجتماعية وسياسية ودينية، حيث ينطوي الجانب الأخير على تركيبة معقدة، تتضافر فيها تاريخية الصراع السياسي على الحكم مع هواجس الوعي الطائفي و”الأقلوي”، وعلاقتها بمنظومة الفساد والاستبداد التي حكمت سورية في نصف قرن.
وإذ يتقاطع موقف التنظيمات السورية المعارضة مع النظام، في الإنكار والترفع عن الاعتراف الواضح بهذا البعد في الصراع وتحولاته، واعتباره غريباً عن الثقافة والواقع السوريين، تزداد ضراوة العنف والعنف المضاد بتأثيراته المرعبة على الكيان والمستقبل السوري، على اعتبار أن البعد المذهبي يعدّ من أهم عوامل استمرارية الصراع وعبثيته، ويشكل أحد دعائم الحكم في تطرفه وأصوليته، النابعة من طبيعته المتناقضة في الاختزال والجمع بين جوهره الصلب المستغل للوعي الطائفي (لدى العلويين)، وظاهره المغلّف بمنظومات “عروبية” وقومية (تستوعب السنّة)، كأدوات وظيفية، داعمة للاستبداد وتسلّطه.
لذا، يمكن القول إن القتال الوحشي بين الأجساد الأيديولوجية الناتجة عن تأثيرات العنف الممهنج ضد المجتمع السوري، لم تكن وليدة اللحظة الثورية الراهنة، وما تبعها من استحضار النظام الأصوليين من كل حدب وصوب، بل تعود بتاريخيتها إلى مراحل متقدمة، أعقبت ولادة الدولة السورية وصراعها السياسي الداخلي، والذي شكل الجانب المذهبي و”الأقلوي” أحد ملامحه المميّزة، وإنْ بصيغ مواربة. حيث دفع البعد الطائفي والمذهبي في ذلك الصراع، باتجاه نشوء ذهنيةٍ سياسيةٍ مركّبة ومقلقة، تنساق وفق فرضية حكم الأقلية المذهبية العلوية على الأغلبية السنية في سورية، تلك الفرضية التي ادعى النظام محاربتها، على مستوى خطاب مؤسسات الدولة وتنظيماتها “العروبية”، بينما تم دعمها وتكريسها على مستوى الأجهزة الامنية الحاكمة، محتفظة بذلك على أعلى معدلات التوتر والتوجس وعدم الثقة بين المكونات الأهلية السورية، ومانعة تحول المجتمع السوري إلى مجتمع سياسي.
“القتال الوحشي بين الأجساد الأيديولوجية الناتجة عن تأثيرات العنف الممهنج ضد المجتمع السوري، لم تكن وليدة اللحظة الثورية الراهنة، وما تبعها من استحضار النظام الأصوليين من كل حدب وصوب، بل تعود بتاريخيتها إلى مراحل متقدمة، أعقبت ولادة الدولة السورية وصراعها السياسي الداخلي، والذي شكل الجانب المذهبي و”الأقلوي” أحد ملامحه المميّزة، وإنْ بصيغ مواربة”
تاريخياً، تفجّر الوعي السياسي الطائفي بشكله المسلح في أثناء أحداث الثمانينيات، عندما استطاع النظام إعادة تطويع الصراع المذهبي لصالحه مع إعادة توطين إدارة سلطة الخوف في النفوس، وتحويل الاسلام السياسي في سورية إلى إسلام اجتماعي (القبيسيات، جماعة كفتارو، جماعة البوطي)، أي الإسلام الخالي من المخالب الأيديولوجية، والمطالبات السياسية المتعلقة بالحكم وإداراته. ترافق ذلك مع تقديم الخطاب الممانع نفسه العناصر والفئات التي تضمر وعياً ذاتياً “بسنيتها”، على أنه الدرب الأمثل في توفير حالة الذوبان والتوهان في الأطر السياسية والأيديولوجية للسلطة، من “أحزاب الجبهة الوطنية” والنقابات والدوائر الحكومية، أملاً في حصول الاندماج بين “الشعب” و”الدولة” والنظام! لكن هذا الاندماج لم يحصل، فالتناقض الجوهري كان في بنية النظام نفسه بين المذهبي والقومي، وتكفلت قوة الاستبداد وعنفه بجمع هذا التناقض في بنية الدولة والمجتمع أيضاً، لينعكس على العوالم الداخلية والذهنية لدى السوريين جميعاً، عبر إدخالهم في لعبة الانفصام السياسي بين ما يضمرون وما يصرحون به. ولأن المشاعر الدينية وإخضاعها سياسياً والتلاعب بها، كانت حكراً على النظام وأجهزته القمعية، احتكم البعد المذهبي لعوامل الشد والجذب، سواء لدى العلويين، بتأسيس عصبوية طائفية ذات وعي سلطوي، تربط مصيرها بالسلطة، وتذوب فيها وفي أجهزتها القمعية، بعد فقدهم أي شكل كياني أهلي أو مدني، حتى أصبح بعض المتنفذين منهم لا يقيمون أي اعتبار للدولة وسلطتها، لأنه يعتبر نفسه هو الدولة، أو لدى الطرف “السني”، بنشوء عصبوية طائفية، تتداخل فيها الحالة الاقتصادية والاجتماعية، لتحديد شكلها ومضمونها. ففي حين تميّزت في المدن باعتدالها واكتسابها سمات العقلية التجارية والبورجوازية (الإخوان المسلمين)، كانت الأرياف تستمد قوة عصبويتها وتطرفها من العوز والفقر (السلفية الجهادية). لذا، لم يكن مستغرباً ظهور التسليح في الثورة السورية من مناطق الأرياف أولاً. مع انطلاقة الثورة السلمية، تأجج النزوع الطائفي لدى غالبية “العلويين”، انطلاقاً من تصور أن أي حراك سياسي، أو ثوري، يفضي إلى نظام ديموقراطي، سيكون مصدر خطر فعلي على مصالحهم ووظائفهم في الدولة، ما لبث أن تحول هذا التصور إلى خطر “وجودي” مع ظهور العسكرة والتسلح في الثورة ذات الغالبية “السنية” التي بدأ نزوعها الطائفي يزداد مع ازدياد مستوى العنف بحق المتظاهرين. لكن حلقة النزوع الطائفي لم تقتصر على إثارة الحساسيات والمشاعر، بل تجاوزتها إلى أفعال وممارسات، تدخل فيها النظام بشكل فعلي ومباشر، فهو كان على دراية، وبحسه الاستخباراتي، أن الرد الفعلي على عنفه العاري والممنهج سيكون عنفاً إسلامياً، تصدره الحاضنة الريفية والزراعية، ذات الأغلبية السنية، ما سيمكنه حينها من استدراج منطق الثورة إلى خانة العسكرة، ويتبعها بالقضاء عليها عسكرياً. هكذا، وخلال مرحلة التسليح وما تبعها، استطاع الخطاب الطائفي المتواري أن يستحوذ بكل انفعالاته على الشعور الديني والمكنون الإيماني لدى السوريين، وأن يأخذ الحيّز الأكبر في ذهنيتهم ووعيهم. فالثقافة الدينية وتناقضاتها المذهبية، كانت الأكثر تجذراً في نفوس الفقراء من العلويين والسنّة، وهي الثقافة الأكثر وضوحاً في إعطاء التقديس والمعاني السامية لفعل التضيحة والموت، في ظل عبثية العنف وزخمه في الحالة السورية.
” نظرة الإنكار لدى المعارضة حول البعد المذهبي في الصراع، تلتقي مع نظرة متعالية زرعها حزب البعث في نفوس السوريين، عن ثقافاتهم المتعددة وانتماءاتهم، وباعدت بين السوريين وجعلتهم يحتقرون أنفسهم ويخفون انتماءاتهم المتنوعة لصالح أبدية “البعث” البائسة التي حولت، بعنفها العبثي، البعد المذهبي في الصراع إلى سرطان أيديولوجي”
دعم إقليمي ودولي
يمكن القول إن البعد الطائفي الذي دعمته قوى إقليمية ودولية، وتحت ضغط آلة القتل والتعنيف، شكل الأرضية والبيئة المناسبة لانتشار ثقافة الميليشيات التي أخذت على عاتقها استنزاف ممكنات الحل السياسي ومحدداته، ورسم الحدود الدموية القاتلة بين المكونات الأهلية والاجتماعية.
دعمت الدول الإقليمية، وعلى رأسها إيران، البعد الطائفي في الصراع السوري، وجعلته أساس الصراع السياسي، لأنها رأت فيه العامل المشترك، والرابطة التي يمكن من خلالها بناء تحالفات مع الداخل السوري. في المقابل، كان الهدف من دعم الكتائب المعارضة الإسلامية المسلحة إحداث توازن عسكري مع قوة النظام على الأرض، وتقويض أهداف الثورة السورية في الحرية والكرامة وبناء نظام ديموقراطي، ودفعه باتجاه مشروع دولة “الخلافة” الذي لا يمكن إنجازه بأي حال من الأحوال. الواضح أن سياسة الاستثمار في الوعي الطائفي باتت جزءاً من استراتيجية الأطراف السورية المتصارعة، أملاً في تأمين كل طرف الدعم البشري والمادي لصالح مشروعه السياسي، المستند في أساسه إلى موروثٍ صراعي قديم، واجتهاداتٍ فقهيةٍ سبقت بناء الدولة السورية بقرون. لذا، لا يمكن تفسير كل العنف المذهبي وعبثيته، إلا من خلال الفهم البنيوي والذهني المتداخل في تكوين تلك العصبويات الدينية، فالتيارات “السنية” التي تتداخل فيها العوامل المتعلقة بتاريخية الدولة وتراثها البيروقراطي، لا تستطيع الفكاك من فرضية حقها التاريخي بالحكم والسلطة، بينما تتجه الأصولية العلوية إلى الاستثمار في “عقدة الضحية” و”المظلومية التاريخية”، وهي تجد في كل عنفها الطائفي مقاومة ودفاعاً عن النفس، حيث لا تستطيع التحرر من كينونتها المسكونة بهاجس الموت والزوال. تلك الكينونة التي يستغلها النظام، ولا يؤمن بها، إذ لا يمكن وصف عقيدة النظام السوري بأنها تعتمد على عقيدة طائفة بعينها، فحقيقة الأمر أن النظام لا يمتلك أي عقيدة، وهو يدين بالولاء فقط “لطائفة السلطة” “طائفة المال والنفوذ”، والتي تجمع في تكوينها عناصر ورجالاتٍ من كل الطوائف والمذاهب، فالنظام، يفضّل أساساً الاهتمام ببنيته، أكثر من اهتمامه بالعقائد والأفكار، ذلك أن البنى المتداخلة والمتشابكة توفر له الآلية المناسبة للمراقبة وتجسس الكل على الكل. صحيح أن تلك البنية تفضّل العناصر العلوية، لكن، ليس حباً بها، بل انطلاقاً من الوعي الريفي للسلطة، وتفضيله أبناء منطقته الريفية، بكونهم أكثر الناس يمكن الوثوق بهم، والاستفادة من شعورهم الطائفي الضامن للولاء. من الأهمية الاعتراف بالبعد المذهبي في الصراع، وإظهاره على حجمه وحقيقته، حتى تتمكن القوى الفاعلة والمؤمنة بالديموقراطية، من إيجاد استراتيجية مناسبة تبقي على ما تبقى من سورية، وتحييد البعد الطائفي، بالتفريق بين الطائفية كوعي، والطائفة كحالة ثقافية واجتماعية، تستوجب الدعم والإغناء. وقد بات الصراع يجذب المقاتلين من السنة والشيعة بكثافة، من كل أطراف العالم، على هدي نبوءات قديمة عن “ملاحم كبرى” وظهور “المهدي”، وعلائم أخر الزمان.
ملاحظة أخيرة، هي أن نظرة الإنكار لدى المعارضة حول البعد المذهبي في الصراع، تلتقي مع نظرة متعالية زرعها حزب البعث في نفوس السوريين، عن ثقافاتهم المتعددة وانتماءاتهم، وباعدت بين السوريين وجعلتهم يحتقرون أنفسهم ويخفون انتماءاتهم المتنوعة لصالح أبدية “البعث” البائسة التي حولت، بعنفها العبثي، البعد المذهبي في الصراع إلى سرطان أيديولوجي، لا يمكن التخلص منه بسهولة، وقد باتت لغة التشفي والانتقام جزءاً ممّا يضمره السوريون تجاه بعضهم.