في الاستقلالية الثقافية والانحياز الضروري إلى الربيع
عبدالله أمين الحلاق
قد يكون البعض على دراية لدى الحديث عن “العامة والخاصة” بما كان يدور داخل قصور العرب الموحدين في الأندلس من نقاشات فلسفية في مسائل الوجود والخلق والعدم والحياة، بينما لا يسمح إلا بالاتباع الأعمى للنصوص الدينية والفهم الحرفي لها خارج أسوار القصور، حيث يتم منع كل اجتهاد في هذا المجال.
1
هذا من تلك الأمثلة التي تحمل معنى ودلالة بالغة على الفصل بين النخب وغير النخب من البشر النائين بإرادتهم أو المنئي بهم عسفاً عن العمل والتبحّر في مجالات الثقافة. ذلك أنه، إلى جانب ما تلعبه الأوتوقراطيات الحاكمة من دور كابح للثقافة والسياسة ولاتساع نطاق العمل والنشاط فيهما، ومن تقييد للمثقفين وفاعليتهم، فإن هنالك نمطاً للحياة هو من طبائع البشر وتحولات أمزجتهم وعوارضها يقول إن من الطبيعي أن لا ينتمي كل البشر إلى الخاصة والنخب، فالثقافة بوصفها معرفة، تكون مترفعة ونخبوية لجهة المحمول الفكري والعلمي لها، ومن الغباء البالغ إسباغ التجانس على كتل بشرية وانسحاب تجربة فردية على الوعي الجمعي لها. البشر العاديون يصنعون بدورهم “ثقافتهم” من حياتهم اليومية وتجاربهم الخاصة والعامة. هذا لا يعني انتقاصاً من قدر الشخص العادي كما لا يعني طهرانية للمثقف ومبرراً له للترفع والنظر من علٍ إلى “القاع الشعبي”وكأنه رسول يسنّ السنن والقوانين الناظمة للحياة على طريق “الخلاص والنهايات السعيدة”.
من الصعب القبول بالتبسيطية القائلة بغياب الحس السياسي لدى الشعوب العربية المنتفضة اليوم، وهي تنتفض بعجرها وبجرها، مطالب بعض شرائحها ليست سياسية محضة وإن حملت ذلك النفس. هي مطالب اقتصادية وسياسية وروحانية وتعليمية ومهنية وثقافية تصب كلها في خانة البحث عن الاعتراف. هذا لا يرفع الشعوب إلى مصاف القداسة والتبجيل على طريقة مدمني الفكر الجماهيري مع الحضور الطبيعي لمخزون شعاراتي وشعبوي سلبي إلى جانب الإيجابي لدى تلك الشعوب، لكنه يحتم على المثقف، وهو في المحصلة جزء من الشعب، أن ينتصر لحرية هذا الشعب ومطالبه في الحرية والانعتاق من نير الاستبداد وإسقاط النظام الحاكم في سوريا واليمن كما حدث في تونس ومصر وليبيا. الحرية حق للشعوب والبشر أينما وجدوا، وكل نظرة فوقية ترى أن العرب لا يستحقون الحرية وأنهم غير قادرين على بناء ديموقراطيات هو افتراض أقرب إلى الفاشية غير المعلنة، ما يحيلنا على تبسيطية أخرى يصعب القبول بها أيضاً، مفادها وجود أدنى حس بالأخلاق والمسؤولية وحضور خيارات سياسية غير أمنية لدى الأنظمة العربية، حس يتيح للمثقف أن ينسج علاقة مع هذا القائد والزعيم أو ذلك الأمير والشيخ، وصولاً إلى مغازلة ملوك الطوائف في لبنان الذين ضيّعوا خاصرتنا الرخوة نحن السوريين بولائهم التاريخي للنظام السوري وانقساماتهم الضيقة على حساب المسألة الوطنية والديموقراطية في لبنان.
المثقف بالمعنى الضميري للكلمة هو ذلك الكائن غير المتماهي مع الأحكام المسبقة والأفكار المسلَّم بها، والمحافظ على مسافة أمان من السلطة الحاكمة تقيه شر الانزلاق إلى درك يوميات قد تطيح فكره النقدي ومخزونه المعرفي في مستنقع السياسة وقذاراتها في ظل أنظمة حكم عربية حوّلت بلداننا إلى ما يشبه المستنقع. المثقف في زمن الانتفاضات العربية لا يمثل المحرك للشارع والشعوب عبر الحزب الجماهيري أو الطليعة الثورية كما أتحفتنا أدبيات الأنظمة “الثورية” ومثقفوها، لكن بات لزاماً عليه أن ينظّر ويقدم الأفكار الداعمة لعملية التغيير في زمن الربيع العربي الذي نعيش مشاهده يومياً إذا ما أراد أن يكون مثقفاً نقدياً ملتزماً فعل الحرية وفكرتها، وهو يضع كل أدواته النظرية والعملية في معترك التغيير والتحولات السياسية والثقافية الزلزالية الكبرى التي تشهدها بلاد العرب.
المثقف الحقيقي جزء من الناس يدافع عن مظالمهم وحقوقهم المسلوبة على يد أولي الأمر والطغاة ورجال الدين المتنفذين في بلاط السلطان. هو المنتمي إلى شعب أكثري لا إلى أقلية مافيوية أمنية يقبع على رأسها، وببلادة وبطر، حاكمٌ بأمر الله يدفع الدنانير الباهظة لمثقف يكيل له على شاشات القنوات الفضائية المديح والإطراء والتحية على ما فعله بالبلد والشعب.
2
ربيع دمشق اليوم هو ربيع يؤسس له السوريون بدمائهم وعذاباتهم وصمودهم في ساحات الحرية في المدن والقرى والبلدات السورية، هو احتمال لربيع مختلف عن ذلك الذي حاول مثقفو سوريا الشجعان اجتراحه في عامي 2000 و2001. والحال، أن كلمة ربيع تحمل معنى مجازيا أكثر منه واقعيا، وهي المشتقة من التجربة التشيكوسلوفاكية. فربيع براغ الذي قاد تحولاته ألكسندر دوبتشيك وبدأ من الرأس السلطوي وصولاً إلى الشرائح السفلى في المجتمع، مختلف عن تجربة الربيع الموؤود في عام 2001 والمولود في عام 2011، ففي الأولى خيّل للمثقفين السوريين الباحثين عن متنفس بعد عقود الاختناق أن ثمة نظيراً لدوبتشيك في سوريا سيقوم بعملية تغيير وإصلاح جذري في البلد، على ما جاء به خطاب القسم في تموز عام 2000، بعدها بدأ الحراك الثقافي السياسي وإن يكن أسير صالونات النخب ومنتدياتهم، أي أنه بقي محصوراً في كتابات المثقفين ومقالاتهم وندواتهم برغم محاولتهم خرق جدار الفصل العنصري بينهم وبين مجتمعهم، الذي بناه الاستبداد عبر أربعة عقود من تمويت للسياسة عن سبق الإصرار. غير أن السلطة طوحت بوعودها إصلاحاتها في الهواء عبر ضربها لتجربة ربيع دمشق واعتقال رموزه وملاحقة كل من تسول له نفسه أن يغرد خارج سرب السلطة.
في التجربة الثانية، وباندلاع الانتفاضة السورية يبدو أن المثقفين السوريين يقعون أمام استحقاق أخلاقي وسياسي وثقافي مع بدء ما انتظره السوريون كلهم وبشرائحهم كافة، اللهم باستثناء المنتفعين من النظام والخائفين من التغيير ومن لا مصلحة لهم بحدوثه، وهو مواجهة ميدانية سلمية وانتفاضة تدعمها جبهة سياسية معارضة تضم نخبة من المثقفين والسياسيين، وكتابات جريئة لكتّاب سوريين مرموقين ومعروفين تاريخياً بمعارضتهم للنظام والطبقة الحاكمة.
ذلك الاستحقاق هو حالة الفرز والاستقطاب بين السلطة والشارع، وتالياً، المعارضة الممثلة لهذا الشارع. ليس كل المعارضين السوريين مثقفين بالضرورة، لكن صفوف المعارضة على علاّت هذه المعارضة تختزن أسماء عريقة ومشرفة في تاريخ الفكر والثقافتين السورية والعربية، مثل صادق جلال العظم وياسين الحاج صالح وعبد الرزاق عيد وآخرين غيرهم. هؤلاء لهم دورهم الفاعل في دعم الانتفاضة السورية ورسم ملامح سوريا المستقبل، لذا سيكون من الظلم الفادح إنكار دور المثقفين السوريين والعرب في انتفاضات بلدانهم، وهو دور متفاوت وبدرجات مختلفة طبعاً، فكيف ونحن نرى البروفسور برهان غليون رئيساً للمجلس الوطني السوري، والدكتور عبد المجيد الشرفي واحداً من أبرز الأعضاء في هيئة حماية أهداف الثورة في تونس!
استطراداً، وفي ما خص الفرز والاستقطاب الآنف الذكر في أوساط المثقفين، فإن القناع سقط عن وجوه بعض من كانوا ينظّرون للتغيير والديموقراطية والثورات قبل اندلاعها، وهؤلاء التحقوا بالسلطة وبحجج جوفاء كحال تلك السلطة ومدّاحيها، وأدمنوا كيل الشتائم للمعارضين والمثقفين السوريين الداعمين للشارع السوري المنتفض، ومنهم من نأى بنفسه عن السلطة والانتفاضة في برج عاجي يشير إلى مضمون ثقافته الخالية من كل بعد سياسي ونفس تغييري نحو الأفضل. ثقافة أريستوقراطية نظرية لا ترى أبعد من الورقة والقلم وجدران الغرفة التي تحتوي الجسد المصمت لذلك المثقف. تُرى، كم سيكون هذا النوع من المثقفين منسجماً مع ذاته وهو يقوم بكتابة مقال نقدي لمسرحية تعرض اليوم على مسرح الحمرا في دمشق، قريباً من حي الميدان أو ركن الدين حيث القتلى والدماء وأصوات الرصاص وحملات الاعتقال؟ إنها محاباة للنظام السوري وخطابه من ذلك “المثقف” الأريستوقراطي الذي يغض نظره عن زلزال ومرحلة مصيرية في تاريخ سوريا الحديث. هكذا يُرفع شعار مفاده أن “سوريا بخير” بحسب صحف النظام وفضائياته وذلك الكاتب المشغول بالمسرح الوطني وإصدارات وزارة الثقافة السورية هذه الأيام.
تلك الحالة هي من ضمن سياسة الأنظمة الشمولية التي تغطي ما تلحقه من خراب مادي ومعنوي بالجماعات والأفراد بحالة من البلادة تسميها استقراراً، وتجند لذلك كل الإمكانات لتبدو مسيرة الحياة طبيعية. عن ذلك يقول فاتسلاف هافل وهو الكاتب من إحدى دول الكتلة الشرقية الشبيهة شمولياتها بالنظام الشمولي في سوريا: “العنف في نظامنا هو عنف جسدي وروحي، عنف مخبوء، مضمر ومغطى، الحياة تبدو اعتيادية أمام أنظار الغرباء، تستطيع أن ترى أناساً يتسامرون بمرح، يتسوقون، ظاهرياً لا شيء يبدو خطأ، ليس هنالك ما يشير إلى مذابح، إن الإرهاب الذي يمارسه نظامنا لن يرى قط من قبل أي سائح أو زائر”.
3
قبل عام بالتمام والكمال، أي في العدد السنوي الماضي من “الملحق”، كتب الصديق ياسين الحاج صالح مقالاً في توصيف أزمتنا ونقد خاووسنا والانسداد الذي وصلنا إليه في إطار عنوان “الملحق” “تمارين لترويض اليأس واختراع الضوء”، ميز فيه بين أزمتين، ثقافية وسياسية. لم يكن دولاب الربيع العربي قد دار دورته الأولى بعد. واليوم، وبين عددين سنويين من “الملحق”، وفيما أجد نفسي مدعواً للإجابة عن سؤال “الملحق” حول فاعلية المثقفين العرب والسوريين ومشاركتهم في الانتفاضة، لا بد من تقديم النقد الضروري لأولئك الكتّاب والمثقفين الذي يريدون أجوبة وحلولاً ثقافية تاريخية لما هو سياسي ويومي كالانتفاضات والربيع العربي، برغم ما يحتويه هذا الربيع وتلك الانتفاضات من طاقة وفعل تأسيسي لثقافة جديدة نهضوية وتنويرية. فالأزمة التاريخية التي تتمثل في الإسلام الصلب وغياب التنوير والإصلاح الديني، يجد فيها هؤلاء راحة واستكانة لهم من تكبد عناء دعم التغيير السياسي والوقوف مع الشارع العربي المنتفض، مختزلين سؤال التخلف بما لا علاقة للأنظمة الحاكمة والاستبداد السياسي المتحالف مع الاستبداد الديني به.
واقع الحال أن الإسلام كدين وسياسة لم يَعدَم، والحال تلك، أفكاراً أسست للتسلط، نمت تلك البذور بفعل القراءة غير التاريخية للنصوص والتراث الإسلاميين، وتبنينت في نسيج المجتمعات لأسباب عدة يلوح أن أهمها غياب نقد جريء للثوابت على نطاق عربي واسع، وإجهاض عملية القراءة التاريخية للإسلام والمرتكزات النصية التي بني عليها، وعدم امتداد الفكر النهضوي التنويري على مجال أفقي واسع، على ما شهدت أوروبا على يد كبار المصلحين الدينيين والتنويريين. لكن هذا لا يكفي المثقفين والكتاب النهضويين الباحثين عن التنوير شر القتال، وهم يحوزون كسلاً وتخاذلاً بقدر ما يملك مثقفون غيرهم نشاطاً وحيوية وقدرة فائقة على مواكبة الربيع العربي بالكتابات والتنظيرات اليومية تارةً والتأسيسية لمرحلة ما بعد إسقاط الأنظمة، تارة أخرى.
مع تقدم العلوم والتكنولوجيا وانفتاح العالم والبشر بعضهم على البعض بفضل الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي الافتراضي تعددت مصادر الثقافة، ولم يعد المثقف يحمل ذلك الشكل الكلاسيكي الذي كانه في أواسط القرن الماضي، لكن رسالة الثقافة العربية النقدية لا تزال تحمل ذات الحمولة الأخلاقية، وهي التي تحدد وتفرز بين العاملين في الحقل الثقافي المتلاقح بالضرورة مع السياسي في بيئة إشكالية يصعب فيها الفرز بين الاثنين كبيئتنا العربية، وفي مرحلة مفصلية من تاريخ هذه المنطقة كالتي نعيشها اليوم، مع الحفاظ على مرجعية المثقف واستقلاليتها عما هو سياسي يومي محض. وهي الرسالة نفسها والفكر التغييري نفسه الذي سقط لأجله مثقفون كثر كضحايا على طريق التغيير والنهضة والخلاص من الاستبداد بأشكاله كافة واجتراح الحرية، تلك الحرية التي سقط ويسقط لأجلها اليوم الآلاف من الضحايا في سوريا وغيرها.