صفحات الثقافة

في البهيمية المستحدثة/ فاروق يوسف

 

 

عدنا بهائم، لا كالبهائم. هل كنا كذلك دائماً، أرانب، حميراً، سلاحف، وخرافاً ضالّة؟! الحرب الاميركية المقبلة (إن وقعت وستقع بالتأكيد) ستكون بمثابة محاولة لتنظيف الغابة من الضواري التي أُطلقت من أقفاص ثقافتنا. من أجل المحافظة على النوع، سيكون علينا أن نتماهى مع دورنا ضيوفاً طارئين في مخيّمات نُصبت على عجل، في محمية كانت إلى وقت قريب مجرد فكرة استشراقية. فكرة كُتبت من أجل أن تُرى في عزلة شرقية. لا معنى لأن يكون للمرء بيت بغرف متخصصة في وظائفها. لا معنى لأن يذهب الأطفال إلى المدارس أو ساحات اللعب. لا معنى لأن يطفئ المرء المصباح ساعة ينام ويشعله ساعة يستيقظ. لا معنى للوسادة بريش حالم أو بقطن هامس، لتلميع الحذاء قبل الذهاب إلى العمل، للنظر إلى المرآة من أجل قول “صباح الخير” للأحد، لإنتظار صياح الديك بعد ليل مرعب طويل، لتأمل أسيجة من أشجار بعد ثلث ربيع ماجن. ستكون الأدوات المنزلية ذكرى. ملابس النوم ذكرى. ربطة العنق مزحة بورجوازية. الكتب المقدسة وحدها تذكّر بحياة لم نعشها إلا من أجل أن نكون قدّيسين وشهداء وأنبياء. هل يحتاج أولياؤنا إلى أثاث، إلى طناجر مثلاً، لطبخ الأرزّ على الطريقة العربية؟ سيكون علينا أن نحلم بالكبسة أو المنسف أو الدليمية في الوقت الذي تصعد أدعيتنا إلى السماء بأقدام حافية وعيون أكلتها الحشرات؟

منظمات الإغاثة الدولية وحدها تعرف السر.

 

وجبات معلّبة تسقط من السماء

في الماضي نشأت مخيّمات فلسطينية داخل الأراضي الفلسطينية. شعب بات غريباً على أرضه. ينظر الفلسطيني إلى الفلسطيني باعتباره لاجئاً. ما الغريب في الأمر؟ يرى الفلسطيني اللاجئ بيته من وراء سياج، فلا يستطيع الذهاب إليه. مشهد خلوي يستحق التسجيل. ستزدهر السينما التسجيلية من أجل أن لا يلتفت التاريخ إلى الوراء. إن أردت الذهاب إلى بيتك في سنجار أو حلب على سبيل المثال، فما عليك سوى أن تستعير أسطوانة مدمّجة، هي في الحقيقة جزء من نظام ثقافي جديد يحلّ من خلاله التأملُ الافتراضي مشكلات الواقع المعقدة. نظام ثقافي بديل، تلغي بموجبه الوجباتُ المعلّبة الملقاة من الطائرات فكرةَ التسوق وانتقاء المشتريات ودفع أثمانها. لا قيمة للعملات الصعبة وغير الصعبة في الوقت نفسه. سيكون هنالك ركض ماراثوني من أجل الفوز بعلبة غذاء جاهز، يكون مصحوباً بمناديل ورقية معطرة وملاعق وسكاكين بلاستيكية. دلال يثير الغيرة.

 

التسول وقد صار فكرة عيش

“إن كنت تريد الهجرة إلى كندا، فاتصل بالارقام الآتية…”. قرأتُ الجملة مكتوبةً على لافتة وُضعت على خلفية من الأزهار في المسافة بين مقهى “ستارباكس” ومطعم “لذيذ” في بيروت. “يا حيوان”، يقول المعلّم للتلميذ من أجل أن يعدّه للذهاب إلى السفارة الكندية. هل تحتاج كندا إلى حيوانات مستوردة؟ فقمة مدهشة، هي خلاصة عدد من التحولات التي استغرقت عقوداً من الحكم الوطني الرشيد، سيتمّ عرضها من أجل إثبات أن نظرية داروين كانت ناقصة. فالإنسان الذي كان أصله قرداً، يمكنه أن لا يعود قرداً في محاولة استرجاع الهوية. هناك حيوانات للزينة أيضاً. كلاب يتم تدريبها على الصمت الخنثوي. سلالة مدجّنة أُعدّت للنزوح الذي صار نهج حياة. “أن هم كالأنعام بل أضل سبيلا”. أضع أذني على الحنفية، في معرض تجريبي يقيمه عدد من الفنانين اللبنانيين ممّن لم تقض مضاجعهم قذائف الأخوة الأعداء، فأسمع أصواتاً. إنها أصوات الجارات وهن يتداولن أخبار الهجرة والنزوح واللجوء. قال لي أحد اللاجئين العراقيين إن “قرار الغذاء والدواء مقابل النفط كان مقدمة للجوء إنساني معدّل”. في تسعينات القرن الماضي كان هناك من ينفق على العراق من أمواله. كان العراقيون عبارة عن كائنات طفيلية فقدت القدرة على أن تعيش نفسها بنفسها. بلد بأكمله كان في انتظار هبات المجتمع الدولي من غير أن يكون قادراً على التصرف بأمواله. لكن الاطفال السوريين الذين يعتاشون في بيروت على التسول، كيف يمكنهم أن يستسيغوا فكرة العودة إلى المدارس؟ حين يُرفَع العلم يوم الخميس هل ينظر إليه أولئك الأطفال باحترام دامع العينين؟ يتمنى المرء لو كان منسياً، من أجل أن يُعفى من الاجابة عن ذلك السؤال.

 

طفولة الرأس المقطوع

الطفلة التي حملت رأساً مقطوعاً هي كذبة على الـ”فايسبوك”. الحيوان المقبل من أوستراليا يكذب الثورة من تحت كما لو أنها كانت محظيته. للقبح جناحا ملاك. ما إن يبدأ وقت منع التجول، حتى تبدأ السماء بالامتلاء بالأشباح المحبطة. هناك رغبة في تأثيث الحزن الممعن في وحشيته بالأغاني المسلية “حن وآنا حن”. كيف يمكننا أن نؤنسن ذلك الحنين الوحشي لنقوده إلى الحظيرة؟ الحزب، العائلة، الوطن، وفوقها الله أو الملك. يكفي أن اللوثة مؤهلة للإنتشار أو اختيار ضحاياها. طاعون البهيمية قد تمكّن من الهواء من حولنا. اخرج لسانك أمام المرآة تر النداء جلياً، “يا حيوان”، يقولها الأب والمعلّم والشرطي وموظف الجمارك والقابلة المأذونة ومختار المحلة والحزبي وبائع الخضرة والمتسول الذي يضع لافتة كُتب عليها “من ذوقك” والسيدة المخملية التي ارتطمت يدها بكتفك المشلولة. شيء من تلك الطفلة المدرّبة على الابتسام أمام الصورة، بغض النظر عن الرأس المقطوع الذي تحمله يقيم فينا، يمهد لقيامتنا. يسبل يده مستسلماً لصور ذعرنا.

تستدرجنا البهيمية إلى غابتها. نضع كل حواسنا في خدمتها.

 

سؤال عن البهيمية

كالبهائم نُعلَف، فهل يحقّ لنا العيش كالبشر؟ ثمّ، ما معنى أن نكون بشراً ونحن لم نكن يوماً ما كذلك؟ ما من ضرر من الاتهام بالمبالغة أو القسوة أو التهويل. هناك من يسرّه أن نتماهى مع حقيقتنا. سياسيّونا، وهم رعاة خيالنا القادم من زمن المعلّقات الجاهلية، يحضّوننا على المضي براحة إلى مزيد من البهيمية المقيّدة بشروط عجزنا وبكذبنا الذي ينوء بمفاخرنا. هناك حيث تقع خصوصيتنا القومية والمحلية وجزء من هويتنا التراثية. يعتز الخليجيّ، وهو عربي الأصل، بثيابه الفولكلورية كونها إرثاً عزيزاً، لكنه لا يكترث بمشهد الدبابات الأميركية وهي تحرث شارع الموكب في بابل التي بناها قوم قدموا من الجزيرة العربية قبل أربعة آلاف سنة. ما من شيء له علاقة بأزمة الضمير، فما من ضمير لدى الحيوان.

مَن قال ذلك؟ ألا يشعر الحيوان بالندم فيتراجع خطوة إلى الوراء؟ لم تنص الكتب المقدسة على الضمير ولا ذكر للأنعام إلا باعتبارها وسيلة للتنقل أو مادة للأكل ومن جلودها تُصنَع الثياب والخيام. ولكن، ألا يمكن أن تكون البهيمية درجة من درجات الإنسانية؟ أقصد إنسانيتنا التي كانت ناقصة دائماً. يفترض البشر أن إنسانيتهم المبالغ في رقيّها هي نقيض البهيمية المبالغ في انحطاطها.

هل الإنسانية شيء والبهيمية شيء آخر؟ هذا سؤال عربي بامتياز.

 

من أجل نشيد صباحي

ستقع الحرب من أجل أن تكون كل حرب أخرى عبارة عن صفقة سلاح. ستزيد تلك الحرب من بلاهتنا. “احتلونا لنخلص”. هذا الأمر لن يكون بذلك التبسيط. اختزال الغزاة في كونهم محتلين، سيقلل قيمة تضحياتنا من أجل أن نكون بهائم أكثر. لقد مكّننا الله من خزائن فرعون لكي يتاح لنا أن نعلو ببهيميتنا. لم يكن مسموحاً لتلك الحرب بأن تقع لو أنها كانت ستقلق هدأة الحيوان الذي يكمن فينا. “نامي جياع الشعب نامي”، قال الجواهري يوماً ما. وكان يخاطب الأرانب والسلاحف والحمير والخراف التي وجدها تذهب إلى النوم جائعة من غير أن تلتفت إلى فقرها. “حرستك آلهة الطعام”، ونحن لا نستيقظ إلا من أجل أن نأكل. لا نركض إلا من أجل التقاط سلّة الغذاء الدولية. لا نحلم إلا بغدٍ توزّعنا فيه الأممُ المتحدة لاجئين بين الدول.

هناك حيث سيكون لبهيميتنا متسع من العشب والصلاة على الغائب وذكرى أناشيد الصباح الوطنية. ديكة ذلك الصباح الذي لم يحن موعده بعد، نحن. نحن دجاج المستنقعات التي جفّت منذ ألف سنة هجرية.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى