في الحاجة إلى ثورة ثقافية/ كمال عبد اللطيف
أثار المفكر المغربي عبد الله العروي، منذ أربعين سنة، ملاحظة مهمة بشأن الوضع العربي في مطلع السبعينيات، تتعلق بأن العرب يجرّون معهم خيبات هزيمة 67، وما ترتب عنها من تداعيات في المجتمعات العربية. ونشير، هنا، إلى الخلاصة العامة الواردة في خاتمة كتابه “أزمة المثقفين العرب” (1974). وتضمنت الخاتمة نقداً قوياً لطابع المداراة الذي يَسِم العمل السياسي العربي. وألحق بالمداراة صفة الغرور، ليعلن ضرورة تجاوز النمط السائد في العمل السياسي العربي، بحكم أنه أنتج مختلف الهزائم والخيبات التي تملأ الراهن العربي. ومقابل ذلك، دافع بقوة عن لزوم العناية بالعمل الثقافي، باعتباره الأرضية الضرورية، لإنجاز كل ما يمكن أن يساهم في تجاوز أوضاع التأخر التاريخي في الفكر والمجتمع والسياسة في البلدان العربية.
وعندما تابعنا، بالأمس القريب، الانفجارات في الميادين العربية، ونتابع، اليوم، نتائج ما حصل فيها وتداعياته المتواصلة في الراهن العربي، ندرك قوة الفكرة التي كان يدعو إليها عبد الله العروي، قبل ما يزيد عن أربعة عقود، حيث لا يمكن أن ننجح، في نظره، في تحقيق مشروع التحديث السياسي الذي نتطلع إليه، من دون ثورة ثقافية، أي من دون تغيير جذري في الذهنيات، وهو تغيير يُفترض أن يحصل في المدرسة والجامعة والمعمل والمقاولة والحزب، داخل المجتمعات العربية، ليشكل عامل إسناد ضروري للتحديث السياسي.
ويمكن الاستدلال على ما نحن بصدده بأشكال الغرور المتواصلة في العمل السياسي العربي، سواء في الأنظمة، أو في ممارسات النخب داخل المشهد السياسي، حيث يجري تهميش العمل الثقافي في برنامج العمل الحزبي، وداخل أغلب مؤسسات المجتمع. ويمكن الاستدلال عليه، أيضاً، بأشكال التفتيت الطائفي والعشائري التي تمارس، اليوم، بأصابع عديدة في أغلب المجتمعات العربية، وكذا بنوعية التفكك السريع الذي لحق بالأنظمة السياسية العربية. إن قراءة جديدة تستعيد روح ذلك الكتاب ومُوجّهاته العامة، وتقف على إشكالاته، وما بلوره من تصورات ومواقف، تدفعنا إلى التساؤل أمام الاستقطابات السياسية والثقافية، القائمة اليوم، بين النزوعات التقليدية والخيارات الهادفة إلى الحداثة والتحديث في المجتمع العربي، عن دور الأفكار في التاريخ. كما تدفعنا إلى الانتباه إلى صعوباتٍ تواجهها النخب، وهي تحاول تفعيل أنظمة الفكر والسياسة في مجتمعاتنا، بهدف محاصرة التقاليد السائدة وتفكيكها.
إذا كنا نؤمن بأن الصراع بين التقليد والحداثة ما يزال عنواناً بارزاً في المجالين، السياسي والاجتماعي، داخل المجتمعات العربية، على الرغم من تنوع وتجدد صُور بروزه وتمظهره في هذه المجتمعات، فإن هذا الأمر يدعونا إلى تركيب المواقف القاضية بضرورة اختراق سقف الخلل الذي يهيمن على تصورنا للتاريخ، ولأهمية العمل الثقافي والسياسي في تجاوز أعطاب المجتمع.
اعتبر العروي أن استمرار التأخر العربي وهزيمة 67 يُفَسّران بعدم قدرة النخب والطلائع العربية على وقف العناية الزائدة بالعامل السياسي، حيث يؤدي إغفال دور العوامل الأخرى في نشوء نوع من الغرور السياسي الذي يُشرِّع للمداراة، ولا يرى حرجاً في التمويه والتسويغ، مغفلاً أهمية العناية بجذور القضايا المطروحة وأصولها في المجتمع العربي. وتبرز أزمة المثقفين في نظره، بوضوح، في أشكال تقاعسهم، وبشكل متواصل، في إعمال النظر النقدي في القضايا المتعلقة بالتراث واللغة والتاريخ.
لا نجازف عندما نقول إن كثيراً من حدوس العروي قبل أربعين سنة ما تزال حاضرة في كثير من أسئلة مجتمعنا اليوم، وهي صالحة لمواجهة أسئلة تروم تحليل أزمة الثقافة والمثقفين في زمنٍ حصلت فيه انتفاضات وانفجارات، تتيح لنا، أكثر من أي وقت مضى، الانخراط مجدداً في مواجهة عوائق التحديث في مجتمعاتنا.
إن إلحاح العروي على أهمية التحول الثقافي وتغيير الذهنيات، في باب التفكير في كيفيات تحقيق التحديث الذي نتطلع إليه، ينطلق من إدراكه القوي لتعقد مجال الذهنيات. ذلك أن الانخراط العربي في استيراد ونقل الوسائل والأدوات المادية الحداثية في فضاء المجتمع، يسير بإيقاع أكبر وأمضى من التحول الجاري في مجال الفكر والتفكير. لهذا السبب، انتقد، أيضاً، في كتابه، ما سماه الحنين الرومانسي الذي تقيم بواسطته النخب التقليدية جسوراً من علاقات وهمية مع الماضي، وهو أمر يمنعها من رؤية ما تحقق من تحولات في المجتمع العربي.
ينطلق التذكير بروح كتاب العروي ومحتواه، في مقالتنا، من إيماننا القوي بأن الصراع الفكري في مجتمعاتنا لا تنهيه معركة واحدة، وقد لا تَفْصِل فيه منازلات عديدة ينجزها المثقف والمفكر في زمن معين. يتطلب الأمر معارك عديدة، لا تنتهي إلاّ لِتُسْتَأْنَفَ داخل مساحة زمنيةٍ، تطول أو تقصر، للتمكن من تحقيق الطموحات المفترض أنها أكثر تاريخية وأكثر نجاعة.
العربي الجديد