صفحات الرأي

كتاب جيل دولوز الرئيس: “الاختلاف والتكرار”


الوجود بوصفه تنوعاً وكثرة

عمر كوش

لم يهتمّ جيل دولوز باستعراض النظريات الكبرى ولا التجريدات أو العموميات، وكل ما يقع تحت عنوان الممكن والكلي والمجرد، بل كان همّه يتمحور حول جعل حياة الإنسان نفسها ممكنة. وفي ذلك يكمن معنى الأصالة والجدّة، اللتين سعى إليهما طوال حياته الفلسفية، وخاصة في مؤلفه الرئيس “الاختلاف والتكرار”، حيث وقف دولوز في هذا الكتاب ضدّ مختلف أشكال استسلام الفلسفة لسواها، فعارض بشدة من حاول أخذ الفلسفة إلى حيّز التحليل والتأمل والتواصل، ومختلف أشكال “العودة إلى..”، ووقف ضد مفهوم النهايات وخاصة نهاية الفلسفة، مؤكداً على الحق في الفلسفة، وعلى إمكانية التفلسف في عصرنا الراهن.

وبالفعل، فإن وفاء شعبان، مترجمة الكتاب، محقة في القول بأن دولوز أراد إنشاء الجديد في الفلسفة، أي خلق طريقة تفكير جديدة، حيث لا بحث عن أصول وأولويات، ولكن أخذ الأشياء من الوسط حيث تنمو، فلم يهتم بالأبدي، بل بفلسفة المفاهيم وبالشخصيات المفهومية، وإنتاجها وإعادة إنتاجها وخلقها، وبتشكل الجديد وظهوره، وبالراهن والراهنية، منتقداً الفلسفة الباحثة عن الماهية والأصل والغاية والكلي والكليات. واجترح منظوراً مختلفاً، تابع من خلاله الأحداث والفردات في صيروراتها.

واعتبر دولوز أن الفلسفة لا تقول إلا ذاتها، لأنها غير معنية إلا بذاتها، إذ هي لا تعرف المرجع، لا تعرف الإحالة ولا الدلالة. تقول ذاتها، ولا تقول أي شيء، وليس لها أصل بذاته. وإن كان ثمة أصل لها، فهو ما قبل الفلسفي، على أن لا يعني وجود شيء مسبق لها، إنما يعني لا يوجد شيء ما خارج الفلسفة. وارتكز في معارضته لكل فلسفة تحيل إلى الهوية إلى منظور يعتبر أن الهوية لا يمكن أن تكون إلا مخمناً بها، لأن الفكر يعطي قبلياً شكلاً ما لم يعرفه بعد، فيبدأ اختلاط المحايثة والإنهاء، حيث يحيل الفكر، الذي يعتقد بواقع خارجي، إلى وضعية الإله، بوصفه خارجاً ومطلقاً.

وأدخل دولوز التجريبية كأسلوب جديد من التحليل الفلسفي، يمكن بواسطته التفكير في الجدة، التي يأتي بها من خلال الاختلاف والتكرار، فتقود مباشرة إلى ممارسة التقصي والتجريب. ومعها يتعلق الأمر بالانخراط في التنوع العيني للممارسات والعلاقات، التي لا تتوقف عن التغير في ضوء الظروف والحالات، حيث يتعلق الأمر في كل مرة بأوضاع فريدة. وبالتالي، فإن صنع الفلسفة تجريبياً، يعني استخلاص الشروط العامة للنفس والحياة. وعليه راح دولوز يبحث عن شروط التجربة الواقعية، وليس الممكنة كما في التمثل، والتي تكز عن الأشكال والمقولات التي تبني التمثل. وسعى إلى بلوغ مستوى معين من التوليف، عن طريق تعيين التوليفات التي تؤسس التكرار في واقعه الحقيقي، باعتماد منظوري المكان والزمان، بوصفهما منظورين واقعيين لكل تجربة، فالتكرار لا يمكن أن يحصل في الزمن. كما أنه لا يمكن تصور الزمان والمكان من غير طرح تكرار أعمق منهما.

ويبرز مفهوما “الاختلاف” و”التكرار” كمثال على مفهوم الجدة أو التفكير بشكل مختلف في المنظومة الدولوزية، حيث الجديد متضمن في طريقة المفهومين بما هما اختلاف محض وتكرار معقد، ويفضي أحدهما إلى الآخر، وكأن أحدهما يتضمن الآخر، ويمتلكان انتماء متبادلاً، أي أنهما متضامنان. وليست الصلة بين الاختلاف والتكرار، كما هي الصلة بين متجانس ولا متجانس، أو متساو ولا متساو، أو متشابه ولا متشابه، بل تكمن في تجاوز مثل هذا التعارض، لصالح نقد عادة ما يتمثل من خلال الفكر الفلسفي الاختلاف، بوصفه اختلافاً بين شيئين، والتكرار بوصفه تكرار حالات ومرات. وفي كلتا الحالتين، ينقص الاختلاف والتكرار معاً، لأنه يتم استيعابهما عن طريق موقف أصلي من الهوية، إذ الاختلاف يعني الابتعاد عن الهوية المفترضة، والتكرار يعني إعادة إنتاج نسخة أو نموذج، فيما يهدف نقد فكر التمثل إلى إزاحته، بغية بلوغ اختلاف إيجابي وتأكيدي، وتكرار مبدع بعيد كل البعد عن المظاهر السطحية والمجردة.

ويظهر الاختلاف في منظور الفلسفة الدولوزية باعتباره المعطى يعطي بما هو متنوع. وليس الاختلاف الظاهرة، إنما نومين الظاهرة. وقد نشأت المشكلة الفلسفية في الاختلاف مع لايبنتز، وشغلت وايتهد وبرغسون، لذلك يعتبر أن خطأ فلسفة الاختلاف المفهومي يعود، من أرسطو وصولاً إلى هيغل ومروراً بلايبنتز، إلى أنه خلط بين مفهومي الاختلاف والاختلاف المفهومي، واكتفت بإدراج الاختلاف في المفهوم عموماً، على أن يبقى الاختلاف مدرجاً في المفهوم عموماً، من غير امتلاك أمثول فريد عن الاختلاف، ويستمر في عنصر اختلاف سبق وتوسطه التمثل. وعليه، بحث دولوز بالمقابل عن مفهوم للاختلاف لا يُختزل إلى مجرد اختلاف مفهومي، وطالب بأمثول خاص به، يكون بمثابة فرادة في الأمثول، وبالتالي يمكن القول أن التفكير في الاختلاف مستحيل انطلاقا من التمثل.

من جهة أخرى، فإن فكرة الجدة عند دولوز تنطلق في تعريفه الفلسفة بفن إبداع المفاهيم وصنعها، ويُعرف الفيلسوف لديه بالمفاهيم، وبنقص المفاهيم. وميّز ما بين مفاهيم غير القابلة للحياة، والعشوائية والمتقلبة، وبين مفاهيم مصنوعة جيداً، وتشهد ربما على ابداع مقلق وخطر. لكن الجدة نفسها لم تجعل دولوز يعيد النظر ببداياتها أو شروطها. وإذا كان البحث في الفلسفة يحيل إلى البحث في مفاهيمها، فهذه المفاهيم – كما الفلسفة – تحتاج إلى توافر شروط لتظهر. وقد تناساها كثير من المشتغلين بالفلسفة، أو ظنوا أن وجودها هو تحصيل حاصل.

غير أن لحظة اللقاء مع الجديد تمثل مرحلة التفكير على نحو مغاير، أو التفكير بما هو إبداع وخلق، لذلك فتح دولوز مفهومي الاختلاف والتكرار في هذا الكتاب على التفكير في الوجود، وفي الفكر الذي يفكر الوجود، وطرح من خلاله مفهوماً جديداً للاختلاف، ليس هو السلب والهوية. وأراد أن يفكر الوجود على نحو مغاير، أي الوجود بما هو تنوع وكثرة بل واختلاف، وأن يكون فكر الوجود نفسه مختلفاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى