في الحرب السورية، الخطوط المهمة ليست حمراء
فؤاد عجمي
رسمُ الخرائط على عجل ليس فكرة جيدة إلا في حالات نادرة. غير أن الجهات الاستعمارية استعجلت وضع الخرائط في العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى، وقد فُرِضَت الحدود التي رسمها هؤلاء على الروابط القبلية والدينية القديمة التي تعود إلى ما قبل نشوء الدول الجديدة بوقت طويل.
اليوم، يبرز جلياً أن تلك الحدود هي ضربٌ من الحماقة، فالحرب في سوريا لا تهدّد سلامة الأراضي السورية وحسب إنما أيضاً سلامة الأراضي في البلدان المجاورة.
ربما كان من التفاؤل، ويا للأسف، أن نتخيّل يوماً أن القتال بين النظام العلوي والثورة التي يقودها السنّة في سوريا، سيبقى محصوراً داخل البلاد. فسوريا هي محور الهلال الخصيب ومرآته في آنٍ واحد، وتصدّعاتها المذهبية والإثنية تعيد إنتاج نفسها في الدول العربية المجاورة. فيما يفكّر الرئيس أوباما، اللامبالي بطريقة غريبة، في ما يمكن أن يفعله في سوريا – لا بل إذا كان سيفعل شيئاً في الأصل – حريٌ به أن ينشغل بتشوّش الخطوط التي رُسِمت في الرمال العربية قبل عقود، أكثر من اهتمامه بالخطوط الحمر التي وضعها بنفسه.
على الخريطة، تقع طرابلس الكائنة على ساحل البحر المتوسط، ضمن الحدود اللبنانية، وتُعتبَر ثاني أكبر مدينة في لبنان. لكن لطالما دارت المدينة، ذات الانتماء السنّي القوي مع وجود أقلية علوية، في فلك مدينة حمص السورية. ولذلك لا يخفى على أحد أن طرابلس تشهد الآن نزاعاً دموياً بين جزئَيها السنّي والعلوي، وقد بات ضبط الأوضاع فيها مستعصياً. يعتبر الجهاديون والدعاة السنّة أن المعركة في سوريا هي معركتهم، ويرون فيها فرصة لطرد العلويين من وسطهم واستعادة السيطرة السنّية.
ولننظر إلى العراق، الكيان المصطنع الأساسي في المنطقة، عند الحدود الشرقية مع سوريا. اليوم، تقف الحكومة العراقية، التي يقودها الشيعة لأول مرة منذ ألف عام، إلى جانب الديكتاتورية العلوية في دمشق. وفي غرب العراق، حرّكت الثورة السورية محافظة الأنبار ومدينة الموصل اللتين تُعتبران معقلاً للسنّة. فالقبائل نفسها تعيش في جهتَي الحدود الفاصلة بين البلدَين. ولا يكترث المهرِّبون والتجّار، والآن المحاربون السنّة، مطلقاً لتلك الحدود.
قلبت الحرب الأميركية الأمور رأساً على عقب في العراق؛ فقد خسرت الأقلية السنّية أمام الشيعة، ودفعها هذا التبدّل في أوضاعها نحو اتّخاذ موقف عدواني. وقد كانت الثورة السورية، حيث انتفض السنّة ضد أقلية علوية، بمثابة نعمة هبطت على السنّة في العراق. فهؤلاء مستاؤون إلى أقصى الحدود من حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي الذين يرون فيه عميلاً للثيوقراطية الإيرانية، بعدما أمضى ربع قرن في المنفى في سوريا وإيران. إذاً على الرغم من أن النظام السوري بذل قصارى جهده لتقويض المنظومة الجديدة في بغداد – شكّلت سوريا بين عامَي 2003 و2009 محطة عبور للجهاديين المتوجّهين إلى العراق لمحاربة الأميركيين والشيعة – تمدّ حكومة المالكي، بواسطة المال النفطي، وبدفع من القوة التي يتمتع بها حزب “الدعوة” الشيعي، الديكتاتور السوري بشريان حياة.
كلما التهمَ الشيعة في العراق شيئاً، ازدادت شهيتهم أكثر. فقد طُبِّقت قوانين مكافحة الإرهاب وأحكام اجتثاث البعث بعشوائية ضد السنّة، وتحوّلت قوات الأمن والشرطة أدوات في قبضة حكومة المالكي. يقبع الآلاف في السجون بتهم ملفَّقة، وقد اندلعت احتجاجات في المدن السنّية. وصبّ النزاع السوري الزيت على النار. فإذا كان السنّة بحاجة إلى إثبات بأن الائتلاف الشيعي في المنطقة (الذي يتألّف من إيران، والدولة العراقية، والنظام العلوي في دمشق و”حزب الله” في لبنان) مصمّم على سلبهم مكانتهم التاريخية في العراق، فقد كان انحياز الحكومة العراقية إلى جانب بشار الأسد كفيلاً بأن يُقدّم لهم هذا الإثبات.
كانت مسألة وقت فقط قبل أن تضخّ الحرب الأهلية السورية، التي اكتسبت شغفاً جعلها بمنزلة دعوة دينية، حياةً جديدة في هذه النزاعات الألفية. إذاً يتدفّق المحاربون الشيعة من العراق ولبنان إلى سوريا اليوم، لحماية مقام السيدة زينب في ضواحي دمشق الشرقية، كما يقولون. يسهل على حسن نصرالله، أمين عام “حزب الله”، إرسال مقاتلين شباب إلى دمشق وإلباس دعمه للديكتاتور السوري عباءة الواجب الديني.
قال نصرالله في 30 نيسان الماضي إن المجموعات الإرهابية هدّدت بغزو المقام وتدميره، محذّراً “ستكون لهذه الجريمة إن حصلت تداعيات كبيرة جداً. إن الدول التي تدعم هذه المجموعات تتحمّل مسؤولية هذه الجريمة لو حصلت”.
لا يخفي نصرالله نيّاته. فهو لم يتوانَ عن إعلان حرب مذهبية في سوريا، قائلاً “لسوريا في المنطقة والعالم أصدقاء حقيقيون لن يسمحوا لها أن تسقط بيد أميركا أو إسرائيل أو الجماعات التكفيرية”. لقد أساء نصرالله، على غرار المالكي في بغداد، إلى السنّة في بلاده. ووجّه دعاة سنّة في بيروت وصيدا وطرابلس، دعوات للتحرّك دفاعاً عن الثورة السورية.
وقد ظهر الانقسام حول سوريا في استطلاع أجراه معهد “بيو”، وكشفت نتائجه التي نُشِرت في الأول من أيار الجاري، أن 91 في المئة من الشيعة في لبنان يؤيّدون الأسد، في حين يعارضه ثمانية في المئة. أما النسبة لدى السنّة فهي العكس تماماً: سبعة في المئة يؤيّدون الأسد، ويعارضه 92 في المئة. إنه انقسام شديد فعلاً في بلد صغير يعاني من رهاب الاحتجاز!
تختلف تداعيات الحرب السورية بين دول الجوار. فالأردن عالق، من دون أن يكون قد اختار ذلك بنفسه، في النزاع مع تمدّد تبعات الأحداث في جنوب سوريا عبر الحدود. تشير التقديرات إلى أن 500 ألف سوري عبروا في اتّجاه الأردن، أي ما نسبته عشرة في المئة من سكّان البلاد. ينتمي سكّان الأردن بغالبيتهم الكبرى إلى الطائفة السنّية، ولذلك استطاعت البلاد تجنّب رياح الثأر التي تهب عبر العراق ولبنان. لكن للأردن انقساماته الخاصة، بين النظام الملكي العلماني وجماعة “الإخوان المسلمين” القوية. فالإخوان يستثمرون طاقاتهم من أجل نجاح الثورة في سوريا، في حين أن النظام الملكي شديد الارتباك والتوتّر. فهو لا يستطيع إغلاق حدوده في وجه السوريين، ويتخبّط لمواجهة العبء الاقتصادي الهائل الذي يضاف إلى ندرة الموارد التي يعاني منها. ينتظر الأردن الخلاص – أي المساعدة من دول الخليج والولايات المتحدة – ويصلّي كي تنتهي هذه الحرب الخارجة من الجحيم.
لا شك في أنه لإسرائيل، الدولة المجاورة الأخرى، وضعها الخاص. ففي البداية اعتمدت بحكمة، سياسة الإهمال الحميد للقتال في سوريا إنما مع الحفاظ على اليقظة الشديدة. لم تبدِ تعاطفاً مع الديكتاتورية السورية، إلا أنها لم تكن تعتقد أن الثوار سيكونون جيراناً أفضل لها في حال وصلوا إلى السلطة. فمن جهة، حافظ النظام الديكتاتوري، في ظل الأسد ووالده من قبله، على السلام على الحدود الإسرائيلية-السورية. ومن جهة أخرى عمل السوريون أيضاً على تأجيج التشنّجات على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، وأتاحوا لإيران الوصول إلى المتوسط، على مسافة قريبة جداً، وتالياً خطرة، من إسرائيل. كانت الحكمة تقتضي البقاء بمنأى عن النيران السورية.
لكن الهجومَين الجويين اللذين يقال إن إسرائيل نفّذتهما فوق دمشق اخيرا أظهرا حدود الصبر الإسرائيلي. وقد استهدفا مستودعات للصواريخ الإيرانية التي كانت مُعدّة لنقلها إلى “حزب الله”. يبلغ مدى هذه الصواريخ 200 ميل، ويمكن أن تحمل رأساً حربية زنته نصف طن. لقد أثبت الإسرائيليون أنهم لن يتهاونوا في الدفاع عن “خطهم الأحمر” ومنع تجاوزه. فهم لن يسمحوا لـ”حزب الله” بامتلاك هذا النوع من السلطة على أمنهم.
على الرغم من عدم الاستقرار الشديد، لا أظن أن حدود “الهلال الخصيب” ستزول. لن ينفصل غرب العراق وينضم إلى سوريا، وطرابلس أيضاً لن تصبح جزءاً منها. لكن من شأن سوريا، في حال وصول الأكثرية السنية إلى الحكم، أن تكتب قواعد السياسة في المنطقة من جديد.
قد تنتهي عسكرة المجتمع السوري التي عاثت خراباً في ذلك البلد. وبعد التحرّر من الاستبداد، يمكن أن تشيّد الطبقة الوسطى في سوريا أسس دولة أكثر انفتاحاً ورأفة. سوريا أرض تجّار وتجارة، وهنا يكمن الأمل بولادة وطن أفضل من قلب هذا الدمار.
ولبنان أيضاً قد يحصل على فرصة لسلوك مسار سوي. فسلطة “حزب الله” هناك مستمدّة إلى حد كبير من سلطة النظام الديكتاتوري في سوريا. إذا حصل تحوّل في سوريا، يجب أن يتغيّر لبنان أيضاً، ويمكن أن تُحجَّم قوة “حزب الله”. لن تكون المنطقة على موعد مع الطوباوية بعد سقوط الطغيان السوري، لكن لا شك في أن سياسة أفضل قد تترسّخ في سوريا وجوارها المباشر.
اللافت في هذا النزاع المطوَّل، الذي يدخل الآن عامه الثاني، هو لامبالاة الولايات المتحدة. لقد تُرِكَت منطقة خاضعة تقليدياً للتأثير الأميركي، وحيدةً لتتدبّر أمورها بنفسها.
بالطبع، ليست هذه العداوات المذهبية من النوع الذي تناسبه اللمسة الخارجية. وليس أوباما من تسبّب بكل هذا الغضب، ولا يمكن تالياً إلقاؤه عند عتبة بابه. بيد أن عدم استعداد إدارته للقطيعة مع الأسد في شكل حاسم، ساهم في سلوك الثورة السورية اتجاهاً راديكالياً. كان المشهد ليتغيّر لو قدّمت الولايات المتحدة المساعدة. فلو فُرِضت منطقة حظر جوي قرب الحدود مع تركيا، لشكّلت ملاذاً للثوار وساهمت في مؤازرتهم. ولو اتُّخِذ قرار مبكر بتسليح الثورة، لخاض الثوّار معركتهم على قدم من المساواة مع النظام. أبدى أربعة من مستشاري الرئيس الأساسيين في الشؤون الخارجية خلال ولايته الأولى، تأييدهم لتزويد الثوار بالأسلحة، وهم وزيرة الخارجية هيلاري رودهام كلينتون، ووزير الدفاع ليون بانيتا، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه)، ديفيد بترايوس، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارتن دمبسي. لكن الرئيس تجاوزهم، وتبيّن أن حذره هذا لا ينفع في نزاع بهذه الحدّة.
بدلاً من ذلك، عمد أوباما، أمام أنظار العالم، إلى رسم خط أحمر يتمحور حول استعمال الأسلحة الكيميائية، وحذّر من أن حساباته ستتغيّر إذا استُخدِمت هذه الأسلحة أو جرى نقلها. وهكذا وضع صدقيّته في يدَي الديكتاتور السوري، وتراجع، وسط عاصفة من صنعه، خلف التأويلات التي يعطيها المحامون.
الآن يشهد الشرق الأوسط الكبير والعالم الإسلامي اللذان اعتادا حملات الإنقاذ الأميركية (الكويت عام 1991، والبوسنة عام 1995، وكوسوفو عام 1999، وأفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003، وليبيا عام 2011) انحسار نفوذ الولايات المتحدة وتراجعها عن تحمّل مسؤولياتها. لقد انكفأ أوباما في وجه مذبحة كبيرة، ولا بد من الإقرار بأن الكونغرس والرأي العام منحاه بطاقة خضراء. لقد سئمت أميركا حروب الشرق الأوسط.
أصيب الثوّار السوريون الذين كانوا واثقين من أن الجنود الأميركيين سيصلون بعد هذه المجزرة أو تلك، بخيبة أمل قاسية. مأساة السوريين أن ثورتهم وقعت في عهد رئيس أميركي يتخّذ من الحذر عنواناً، وقد شهد على مخاطر التدخّل، وتغاضى عن عواقب الانكفاء.
باحث في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد الاميركيةترجمة نسرين ناضر
النهار