صفحات الرأيناصر الرباط

في الضرورة الملحة للعودة إلى الحداثة/ ناصر الرباط

 

لحداثة (Modernity) مفهوم مفصلي وأساسي في فهم الواقع الإنساني المعاصر وصوغه. لكنه مفهوم كثيف ومعقد ومتعارض أحياناً، خصوصاً بالنسبة إلى ظروف وصول الحداثة إلى بلادنا. فهي جاءت إلينا على خلفية المدّ الاستعماري، ما جعل التمييز بين عَنَت الاستعمار وتحرر الحداثة وانفتاحها صعباً.

هذا التلازم في التوقيت بين تجربتي الاستعمار والحداثة هو أساس عقدة الحداثة في الثقافة العربية المعاصرة، على رغم مضي أكثر من قرن ونصف القرن على انطلاق الدعوة للحاق بركب الثقافة العالمية في العالم العربي على أيدي المجددين الأوائل، وعلى رغم ظهور ثقافات وطنية عربية معبرة وفاعلة على مساحة العالم العربي بعد الاستقلال غيرت منحى الحداثة نفسها ومعناها في محيطها العربي.

هذا المأزق الحداثي أصبح أكثر حدّة اليوم مع صعود تيارات عقائدية وفكرية إسلامية ترفض الحداثة من أساسها، لا بل تناضل ضدها بعنف غير مسبوق وحمية لا تفتر، على أساس أنها غريبة وهدامة ومعادية للإسلام.

هذا التطور فرض نفسه بقوة على الواقع الاجتماعي والسياسي العربي في السنوات العشر الأخيرة، ما يتطلب إعادة نظر في كيفية صيانة مكتسبات الحداثة والدعوة إلى مبادئها ورؤاها. فعلى رغم أن المثقفين العرب الحداثيين واعون تماماً حدّة وخطورة التحدي الذي تطرحه الجماعات الإسلامية العنيفة والمسيسة، فهم بغالبيتهم ما زالوا يقاربون الحداثة في نقاشاتهم وتنظيراتهم وكتاباتهم كما قاربتها الأجيال السابقة، على رغم تغير المحيط السياسي والاجتماعي تغيراً شاملاً، وعلى رغم تطور الأدوات المعرفية تطوراً كبيراً، وفوق ذلك كله ظهور هذا التحدي الإسلامي السياسي الرافض الحداثة شكلاً وموضوعاً.

لهذا، أصبحت إعادة النظر بعلاقة الثقافة العربية المعاصرة بالحداثة أكثر من ضرورية، خصوصاً بعدما صار لها أبعاد مأسوية مؤثرة في الواقع العربي بفعل الانفصال الحاد بين نخب سياسية وثقافية واقتصادية تُتهم بالاغتراب والتبعية للغرب وقواعد شعبية عريضة فقيرة وجاهلة ومُضطهدة ومرهقة بأعباء الحياة تفتش عن مرفأ انتمائي آمن في عالم اليوم. فالأولى ما زالت في مجملها تجد في الانتماء العالمي إطاراً ملائماً لنشاطها وازدهارها المادي، ولو أنها تضطر في بعض الأحيان لغض النظر عن موقف الغرب العدواني من بلادها أو لرفضه بإصرار قبول محاولاتها التماهي مع حداثته من خلال منظورها هي. وهذا موقف محبط، وإن كان يُكنس تحت البساط أحياناً لتلافي تبعاته. أما الجماهير المُستضعفة فتجد نفسها منقادة لحركات شعبوية وغوغائية، معظمها متشدد دينياً ومنغلق فكرياً، تستغل عدوانية الغرب ذاتها والإحباط الذي تعيشه الشعوب نتيجتهاجراءها ونتيجة عوامل داخلية أخرى، مثل الاضطهاد السياسي والاجتماعي والهزال الاقتصادي والمعرفي والتمزق الثقافي والحنين إلى ماض تليد، لكي تقدم برنامجاً قائماً على القطيعة والمعاداة والقفز فوق التاريخ والعودة إلى أصول دينية طاهرة مطهّرة.

يتوج هذين الموقفين المتناقضين موقف ثالث يزيد تناقضهما، ويضعفهما كليهما في الآن نفسه، وهو موقف الأنظمة العربية الشمولية الحاكمة من ملكية وجمهورية وبين بين التي وجدت في هذا التضاد مرتعاً ممتازاً يمكنها أن تستغله أحسن استغلال في إطالة عمرها وتأكيد نفوذها، فأخذت تلعب بنجاح مُستغرب على وتيرة الصراع بين الطرفين وتستخدمهما لقمعهما بالتناوب، وأحياناً في شكل دموي عنيف.

هذه كلها مشكلات جوهرية ليس فقط بالنسبة إلى الثقافة العربية، بل أيضاً للمجتمعات العربية والإنسان العربي والحاضر والمستقبل العربيين. وهي بمجملها أصبحت ملحة وجودياً وثقافياً اليوم، بل أصبحت متفجرة وإن كانت نتائج تفككها ما زالت غير بادية للعيان تماماً. وهي كذلك مشكلات في حاجة إلى تضافر جهود متعددة سياسية واجتماعية واقتصادية وتعليمية وأخلاقية وحقوقية لمجابهتها وتغيير مسارها.

لهذا كله، نحن في حاجة للعودة إلى الإمساك بثقافة الحداثة من قرنيها والمساهمة في إنتاجها من خلال تطويعها لمتطلباتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمعرفية. وعلينا كذلك إعادة موضعة الثقافة العربية المعاصرة ضمن إطار الحداثة كمكوّن أصيل وفاعل فيها وتحدي الفكر المحافظ في المحيطين العربي – الإسلامي والغربي اللذين يتشاركان في رفض هذه العلاقة ومحاولة محو آثارها. ولهذا الرفض أسباب عدة، بعضها تاريخي وأيديولوجي، وبعضها سياسي وتسلطي ومرتبط بالتوافق الحالي في المصالح بين الدول الغربية الحداثية تعريفاً وأنظمة الحكم العربية غير – الحداثية واقعاً. فالأولى تجد في استكانة المجتمعات العربية للمفاهيم السياسية والاجتماعية ما قبل الحداثية مخرجاً من مأزق اضطرارها لقبول هذه المجتمعات كشركاء أنداد في عملية العولمة الجارية حالياً فيما لو تعادلت هذه المجتمعات معها حداثياً (أي فكرياً وتكنولوجياً وثقافياً واجتماعياً). والثانية تجد فيها مهرباً من الاستحقاقات السياسية للحداثة التي تنطلق من نظرة تحررية لحقوق الأفراد والمجموعات العرقية والطبقية والدينية ضمن المجتمع المدني الناظم لعلاقاتهم، ما يشكل تحدياً هائلاً لشمولية أنظمة الحكم العربية وهيمنتها أو صعود المنظمات الجهادية المغرقة في تزمتها وعنفها ورفضها واقعَ العصر.

وأجزم بأن ثقافة عربية حداثية وواعية ومتمرسة بالخطاب المعرفي المعاصر وبالتعامل مع سياقاته ومعطياته وأدواته واقتصاده بحرية وارتياح العارف والمنتمي، هي الأقدر على مقارعة كل أشكال الاستعمار الحديث، والسوق النيورأسمالية الجشعة، وأنظمة الحكم العربية الرعناء، والخطابات الهوياتية الضائعة التي تعاني منها المجتمعات العربية بعمومها والمنظومات العقائدية المجرمة والمجرّمة لكل ما عداها والتي نمت في بلادنا كالسرطان. ولا أظن أن الانكفاء على الذات وصقل هوية خاصة ترفض الآخر أو تهرب منه، ومحاولة اجتراح أسس معرفية مغايرة لأسسه هي الأدوات الأصلح في محاولة الثقافة العربية المعاصرة انتزاع حقها بالعيش الكريم، والانتماء إلى العالم المعاصر، وممارسة دورها في رسم صورة هذا العالم واستشراف مستقبله.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى