صفحات الرأي

لكنها ليست حرباً دينية/ إبراهيم غرايبة

 

 

تخطئ الدول والنخب الدينية والمؤسسات الدينية الرسمية عندما تجتهد في تقديم مبررات دينية للحرب على «داعش» أو لبيان انحرافها عن الدين ومخالفتها له، هذه مسألة لا تضيف ولا تنقص شيئاً في إبرام المعاهدات وإعلان الحرب والصلح، فالعدو هو من يهدد الدول والمجتمعات ومصالحها، والصديق هو من يشارك الدولة في حماية مصالحها ومواطنيها، وأن يكون العدو صالحاً ومتديناً لا يغير ذلك من صفته واعتباره عدواً، ولا حاجة ولا ضرورة أن يكون خارجاً على الدين أو لنفي انتمائه إلى الدين لأجل محاربته.

ولا تحتاج الدول والسلطات إلى فتوى دينية لتحارب «داعش» أو الخارجين على الدولة والقانون، ولا تفيد في شيء الفتاوى والردود الدينية على الجماعات الدينية المتطرفة، فالدولة تخوض الحروب وتعقد المعاهدات بناء على تقديرها لمصالحها وفق سياستها العامة والخارجية، أن تكون دولة أو جماعة متدينة وملتزمة بالدين لا يعني بالضرورة عدم محاربتها إذا كانت تضر بسيادة ومصالح الدولة، والعكس صحيح أن تكون دولة أو جهة غير إسلامية لا يعني بالضرورة محاربتها أو عدم التحالف معها إذا كان ثمة مصالح مشتركة.

في توظيف الدين في الصراع مع «داعش» والجماعات المسلحة الخارجة على القانون نلحق أضراراً كبيرة بالدين والدولة والمواطنين والعقد الاجتماعي، فالتنافس الديني مع الجماعات الدينية حرب خاسرة فلا يمكن منافستها في ذلك، فهي جماعات ملتزمة دينياً على مستوى لا يمكن الزيادة عليه، وتملك أيضاً رؤية دينية متماسكة وتؤمن بها ولا يفيد الجدل معها ومحاججتها وبخاصة عندما يكون الطرف المحاجج من جهة الدول لا يملك رسالة واضحة ولا معرفة كافية، والأسوأ من ذلك حين يكون مؤمناً ومقتنعاً بما تؤمن به الجماعات ولا فرق بين الطرفين في ذلك سوى مبررات واهية تقدمها النخبة الدينية الرسمية عن التحوط والتدرج وشروط الفتوى والعلم، إنها في الحقيقة تزيد التأييد والمصداقية لهذه الجماعات، وتزيد القلق والخوف من الإسلام والمسلمين، وسوف يكون لسان حال العالم إذا لم تكن المؤسسة الدينية الرسمية مختلفة عن «داعش» في شيء فليس ثمة فائدة في محاربة «داعش» وحدها ولكن يجب النظر إلى الإسلام وجميع المسلمين باعتبارهم خطراً يهدد السلم العالمي.

وردّ السياسة العامة والخارجية إلى فتاوى الفقهاء يلحق ضرراً كبيراً بالسياسة العامة للدولة وبناء العقد الاجتماعي للدولة والمجتمع ويضر بالاجتماعي للمواطنين ويفوت الفرصة على الارتقاء بها. فبدلاً من بناء وعي وطني عام بالمصالح والسياسات والجدل حولها تصبح هذه فتوى يقدمها رجل دين يجتهد في البحث عن أدلة وشواهد من العصور الوسطى لصياغة فهم ورأي لمسائل تفصل بينها وبين فهمها مئات السنين، وهذا يشجع على الغموض والفساد في بناء وإدارة السياسة وتوضيحها وسيكون بمقدور السلطة أن تقدم فتوى دينية لتأييد موقفها وإدارتها السياسية والعامة، ولا يعود ثمة مجال لجدل سياسي حقيقي يتشكل فيه المواطنون حول تقديرهم للسياسة والمصالح.

ويتحول الدين إلى رؤية بشرية يقدمها رجال الدين وفق تقديراتهم ومصالحهم ومواقفهم السياسية، ويفقد التدين بعده الروحي المستقل والنزيه الذي يرتقي بالإنسان ويمنحه السلام والرضا، ويلتبس على الناس الدّين بغيره، وتكون سلطة فئة من الناس على الدين والناس أكثر من الدين نفسه، ويتحول رجال الدين إلى وسطاء لم يأذن الله لهم بين المتدين وبين الله.

والدين ابتداء لا يحتاج في فهمه وتطبيقه إلى وساطة ومساعدة من أحد، فالأصل أنه يخاطب الناس فرادى ويتحملون فردياً مسؤولية اعتقادهم الديني، ولا يفيدهم في العلاقة مع الخالق تدخل بشري في الفهم والاعتقاد والتطبيق.

والسياسة والمصالح والمواقف والظروف تتغير على نحو دائم ومستمر، وهذا أمر طبيعي ومتوقع ثم تحتاج الدولة والنخب الدينية إلى تغيير الفتوى وفي بعض الأحيان تكون معاكسة لفتاوى سابقة، فما كان حراماً يصير حلالاً وما كان حلالاً يصير حراماً، ولكن الدولة والناس لا يحتاجون ابتداء إلى هذه الفتاوى لتخطيط مصالحهم وتقديرها، هي لم تكن حراماً ولا صارات حلالاً، ولكنها كانت مصلحة وفائدة وصارت ضرراً أو العكس.

وتنشئ الدول والجماعات والأمم حياتها وقيمها وأفكارها بناء على ثلاثة مبادئ رئيسية تشترك فيها جميع الأديان والأمم والحضارات الإنسانية: الحق بما هو التمييز بين الخطأ والصواب والخير بما هو التمييز بين الضار والمفيد أو تقدير المصالح، والجمال بما هو التمييز بين القبيح والحسن، وفي ذلك تتشكل الفلسفة والأخلاق والقيم والثقافة والفنون والقوانين والتشريعات والعلاقات، وتظل في مراجعة وتطوير دائمين وفق تقدير الحق والخير والجمال وتفاعلها المتواصل مع مواردها وتجاربها وقدرتها على استيعاب ما تقتضيه هذه التجارب ثم إبداع مستمر ومتواصل لرؤى وتقديرات جديدة للحق والخير والجمال، ويتحول هذا الإبداع فوراً إلى منتج تاريخي يخضع مرة أخرى للمراجعة والجدل والاستيعاب لأجل إبداع حالة جديدة، وهكذا في عمليات أبدية لا تتوقف، وهذا الجدل لا يمكن أن تحكمه فتاوى وتعليمات دينية، أو تديره فئة واحدة من المجتمع أو الناس ولكنها شبكة من الجدل والعلاقات تنهض بها جميع الفئات.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى