صفحات الرأي

في الـ”فايسبوك” يتفوّق التعبير على التغيير/ دلال البزري

في بداية مراهقتي، في ستينات القرن الماضي، كنتُ أواظب على قراءة مجلة فرنسية خاصة بعمري، “مرحباً أيها الأصحاب” (Salut les copains). من بين زوايا المجلة الثابتة، كان هناك واحدة عنوانها “مراسلات”، فيها أسماء عناوين لبنات وصبيان، من كل أقطار العالم الفرنكوفوني، صورة “شمسية” لكل منهم، مع هواياته المفضلة. كانت “المراسلات” منذورة للذين واللواتي يودّون إقامة علاقة “صداقة بالمراسلة”. كنتُ مولعة بهذه الزاوية، وأقيم “مراسلات” مع أنحاء عدة من العالم الفرنكوفوني، وكان مزدهراً آنذاك. أكتب على ذاك الورق الأصفر، صفحات وصفحات عن عائلتي، مدرستي، بلدي، بلدتي، الصبيان والبنات الذين من حولي، من أقارب وتلامذة وجيران، عن الروايات التي كنت “أتجرأ” على قراءتها، حتى في أروقة مدرسة الراهبات المتشدّدة. الرسائل أبعثها، أنتظر الإجابات عنها، بنوع من اللهفة المحمومة؛ أطوي الأوراق الصفراء بعناية، وأضعها في غلاف “مميز” دائماً، وأذهب بمشوار قصير الى “البوسطة”، حيث أضع الطابع البريدي على الظرف، وأرسلها.

صبيان وبنات من عمري، من أفريقيا الغربية وأوروبا، يردّون عليّ بأشياء شبيهة؛ أسماؤهم كانت ترنّ يومياً بأذني، أحسب الأيام، فأتوقع من أحدهم، في هذا اليوم بالذات، جواباً. كان البوسطجي، لذلك، أهم شخصية عندي. يوماً بعد يوم، كان يمرّ على حيّنا بدرّاجته الهوائية، يقودها بيده اليمنى، على كتفه رزم من الغلف، بعضها مرصوص، والآخر يرفعه بيده اليسرى. كنتُ أنتظره على الشرفة يومياً، يوماً بأمل وآخر من دونه، محض انتظار. في الأيام الحلوة، كان يلوّح لي من بعيد، بيده المحمّلة غلفاً قليلة، وبابتسامة عريضة، كأنه هو الذي تلقّى الجواب. البوسطجي كان مثل مفتاح لأبواب، كنت أشعر بحيويتها، بالحاجة اليها، من دون أن أدركها تماماً. فرسائل “أصدقاء” المجلة كانت حميمة وعامة في آن واحد. موجهة اليّ بالتحديد، كُتِبتْ من أجلي، تردّ على أسئلتي وفضولي، فيكون عالم قريب من قصة قصيرة كُتبت من أجلي، أدخل إليه، بصفحاته الثلاث أو الأربع. اقرأ الرسائل هذه عشرات المرات. أكثرهم شغفاً بوصف حياته ومحيطه كان صبياً من دولة أفريقيا الوسطى، شقيق رئيس جمهوريتها، كان يتكلم عن غرائب، مثل اسمه الرباعي، “القبَلي”، الأفريقي، المسيحي، الأوروبي.

“المراسلات” هي ربما الإبنة الشرعية الوحيدة لمفهوم الصداقة الذائعة على شبكات التواصل الاجتماعي؛ من حيث افتراضيتها الضائعة في العراء، من غير أن تكون مقنّنة بالشبكة الإلكترونية: من حيث التقدم بطلبات الصداقة مع “سي في” (C.V.) والموافقة عليها، وتختلف عنها بأشياء أخرى.

المهم، ان شبكات التواصل الاجتماعي تنطوي، بالإضافة الى التواصل مع الآخرين، سمة المجال الحيوي، ذاك الإطار الذي يوسّع حركتنا العامة، ويمنحنا فرص التعبير عن أنفسنا وعن آرائنا، وقدرة لا نجدها في مكان آخر، على المشاركة في رسم مخيلتنا، في صوغ ثقافتنا أو سياستنا أو نمط حياتنا حتى. المقصود أن أيامنا، فوق تبادل الرسائل، كانت كريمة معنا في إهدائنا الى مجالات حيوية واقعية، قبل “الإفتراضية” منها؛ كانت الماتشات الرياضية التي تجمعنا، في مراهقتنا، كذلك مسابقات الماراتون والسباحة، وحفلات “البارتي”، التي كنا ننظّمها بغفلة من أهلنا. فضلاً عن الرحلات المدرسية التي كانت دائماً تصادف مع رحلات لمدارس أخرى، لصبيان وبنات من أعمارنا.

المجال الأرحب، والأكثر حيوية، وجدتُه في أواسط مراهقتي، بعد مرحلة الأصحاب بالمراسلة الفرنكوفونيين؛ كانت المشاركة في التظاهرات وجمع التبرعات للفلسطينيين والتدرّب على السلاح في مخيماتهم، وعلى إدارة عياداتها الميدانية. من هذه المشاركة الى العضوية في منظمة يسارية “متطرفة”، “منظمة العمل الشيوعي”، كان مجالها متنوعاً وديناميكياً، خليطاً من أبناء الطبقات والمناطق والطوائف والشخصيات المختلفة. مجتمع بعينه، يتفوق أحيانا كثيرة على مجتمع الأهل، مخترقا منه أحياناً. عندما خرجتُ منه، بعدما دختُ في مثالبه خمسة عشر عاماً، كانت مشكلتي الكبرى خسارتي للأصدقاء، ولم يكن تعريفي للصداقة على الفذلكة التي هو عليه فيها اليوم. المجال الموازي للصداقات كان الجامعة، “كلية التربية” بالتحديد، التي خلق دوامها الإلزامي، فضلاً عن مناخ تلك الأيام، ربما، أنماطاً من التفاعل الإنساني لن تجدها في مكان أو جامعة لبنانية أخرى؛ دوائر جديدة لصداقات دائمة، ولتجارب سياسية فنية وشعرية وأدبية وغرامية. كلها مجالات نَمَت خلالها صداقات متينة سليمة، صارت الآن تراثاً.

مع خروجي من “منظمة العمل الشيوعي” وتخرّجي من كلية التربية، تقلص نطاق الصداقات والتفاعلات السياسية. السياقات اللاحقة المتفرقة التي حاولتُ بها استعادة هذين الإطارين، كانت متفاوتة؛ بعضها في الثانوية، ثم في الجامعة، حيث علّمت. وبعضها الآخر في جمعيات ما يسمّى بـ”المجتمع المدني”، لم يكتب لأيٍّ منها تطور، أو استدامة. تجارب كانت غالبية تفاعلاتها سلبية، أو على الأقل صفرية النتائج. هذا كله مرّت عليه ثلاثة عقود من الزمن، حتى جاء الإنقسام الوطني الكبير ليسمّم بشظاياه اللاهبة الصداقة والتفاعل السياسي معاً، وينسف في طريقه صداقات بدت لوهلة انها خالدة، وآليات تمحوُر مبنية على الإنتماء المذهبي، بعصبية غير معلنة، غالباً، وبعقيدية، رديفة، لا تقلّ قدرة على تدمير الطاقة التي يحتاج اليها البشر، أينما حلّوا، ليجتثّوا غربتهم الصميمية، بالحب والصداقة والتضامن والتآزر. التجارب التي خضْتها في تلك الحقبة، وما ورثته عن تلك التي سبقتها، ذاك الخليط الملغوم بين الصداقة والسياسة، جعلتني أدور في حقول كأنها جرداء، أصبر عليها بالمسافة اليومية التي أقيمها معها؛ المسافة الضرورية لفهم جفافها وعقمها، من دون فقدان أمل أحتاج اليه، إنقاذاً للنفس من الغرق في رمالها الحارقة. أتمرّن يومياً على هذه المسافة التي لا تتوافق مع مزاجي وطبائعي؛ أقول لنفسي ان الحياة عبارة عن عادات جديدة عليك اعتمادها، وإلا اندثرتَ.

* * *

سمعتُ بالـ”فايسبوك” وأنا على هذه الحاجة المتردّدة للمجالات الحية، من صداقات تفاعلية. أبنائي هم الذين أدخلوني الى هذا العالم: ابني أولا، وقد تمكّن، برقّة وكياسة، من كسر “الحاجز النفسي” الذي وقف بيني وبين جهاز الكومبيوتر نفسه، ومن بعده عالم الشبكة وكل تفرعاته المتناسلة. ثم ابنتي التي خاضت معي لإقناعي بضرورة أن “أفتح حسابا” على الـ”فايسبوك”، وتكون لي نافذة و”أوكسيجيناً”، كما كانت تقول. فتحتُ الحساب إذاً، لكنني لم أواظب عليه. نسيته مدة سنة أو أكثر بقليل. ولم أعد لـ”أفتحه” إلا مع اندلاع الثورات العربية. فبعد الثورة المصرية التي تابعتها تلفزيونياً، كنت أتراسل عبر البريد الالكتروني “الكلاسيكي”، مع أحد أصدقائي السوريين المعارضين، وأكتب عن الملامح الجنينية للثورة السورية. يومذاك اقترح عليّ صديقي أن “أفتح حسابا” على الـ”فايسبوك”، ليتمكن أصدقاؤه من قراءة ما أكتب. طمعي بالمزيد من القراء، وفضولي المتصاعد لما قد يحصل، أو أتمنى أن يحصل في سوريا، هما اللذان أعاداني الى حسابي، الذي كان يحتاج لـ”التفعيل”. هكذا “دخلت” على خط أحد “مواقع التواصل الاجتماعي”، كما يسمّونه، في إلحاح يومي على متابعة ثورة السوريين، في مراحلها الأولى، وكانت طلائعها صرخة أطلقها مارة: “الشعب السوري ما بينْذلّ” احتجاجاً على إذلال مواطن في قلب أحد اسواق دمشق على يد رجل شرطة؛ وفي العاصمة نفسها، الوقفة الإحتجاجية أمام وزارة الداخلية على تمديد اعتقال مواطنين. “أين أصبحتم؟”، “أين التظاهرة التي أعلنتم عنها؟”. كنتُ أسأل على التوالي، بنفاد صبر، الى أن اندلعت في درعا، فتكرّست الثورة، وصارت بعد ذلك الزلزال الذي يعرفه جميعنا. ودخلتُ معها الى عالم الـ”فايسبوك” المحموم والمعقّد، والجديد عليّ، جدّة السيارة أيام ركوب الخيل.

مدفوعةً ربما بحماوة الوقائع، أخذتُ “أزور” حسابي كل يوم، أمضي فيه ساعتين أو ثلاثاً، بشهية قريبة الى الشراهة، أنقِّب في المجموعات المتشكِّلة، في الأقوال النازلة على “ستاتوس” كل “صديق”، في الروابط المتشاركة أو المتقاسمة (share)، في الصور والفيديوات ورسوم الكاريكاتور والنكات؛ وانجرفتُ في إغراء السؤال المطروح علي “حائطي”، كأنه موجه شخصياً إليَّ: “ماذا يدور في ذهنك الآن؟”. منذ بداية النهار، أجيب عن السؤال، أعبّر، أكتب، أعطي رأيي برأي آخر (comment). ما يعجبني “أحبّه” (like)، من دون حساب، وأحيانا من دون النظر الى اسم صاحب الحظ بهذا “الحب”. هذه الممارسة العفوية، الأقرب الى العشوائية، لم تدُم. الفضل يعود الى عتاب تلقيته من “صديقين” واقعيين وافتراضيَين في آن واحد، قوامه لم يكن جديداً عليَّ تماماً: “لماذا لا تضعين “لايك” على “الستاتوس” (statut) الخاص بي؟ ألم أضع “لايك” على “الستاتوس” الخاص بك؟”. تلعثمتُ طبعاً، ولم أطق من يومها، مهمة “الحب” بين الأصدقاء هذه، خصوصاً الكتّاب من بينهم. مع نقلهم الحسابات الواقعية الى حسابهم الإفتراضي، بدا الـ”فايسبوك” في نظر غالبيتهم ساحة إضافية لتنمية علاقات عامة وتلميع نجومية، كلها معطوفة على انقسام سياسي محموم، أضعف وقع الكلمات نفسها. عتب الصديقين عليَّ، جعلني أدرك أن عشوائية “مساهماتي” الأولية تلك سوف تُدخلني في متاهات نوعية معينة من العلاقات، لستُ في صددها. فصرتُ لا أعلّق ولا “أحبّ” إلا صور أحفادي وأبنائي وأبناء اخوتي. أتقاسم كالسابق الصور والأفلام والرسوم؛ لكن الاساس في علاقتي الآن مع الـ”فايسبوك”، علاقة منضبطة مقنّنة لكاتبة في مجال حيوي ليست مضطرة للمشاركة بحذافير سجالاته أو انقساماته أو تشظياته أو تعليقات “كباره”؛ لكنها تغرف منه معرفة في هذا المجال، قيمته الأساسية انه إطار تجتمع حوله افتراضيا أعداد كبيرة من السابحين في فضائه، يجتمعون وفق اللغة، خصوصاً، ومن بعدها البلدان أو الميول الفنية أو السياسية أو البيئية أو المهنية أو التجارية المشتركة. طبعاً لا أدّعي أن طموحي المعرفي يغطي كل هذه الدوائر. فقط، ما يبلغني من دائرتي العربية، المشرقية، اللبنانية، الفرنكوفونية، المصرية، المهاجرة، وتمتد بداخلها الأجيال بين الأجداد والأحفاد بعد الأبناء. يحصل في داخلها شيء جدير بالمعرفة، قبل المشاركة والتعليق، أو ربما خلالهما لمن له طاقة على التغيير، أو أملاً به. فالـ”فايسبوك” والـ”تويتر” والتدوين وشبكات التواصل والتعارف والتزاوج والتعبئة السياسية أو الثقافية…. الخ نوع جديد من المجالات العامة. اندثرت المراسلات الخاصة العابرة القارات، وضعفت الأحزاب السياسية لحساب الطوائف والمذاهب وأطرها الراسخة؛ بقيت جمعيات “المجتمع المدني”، النوادي والأحزاب والمقاهي والمهرجانات، تملي وظيفتي التعبير والتغيير، بدرجات متفاوتة؛ وإن كان لإستخدام هذه الأطر كلها، محل كبير على شبكات التواصل الاجتماعي، بعدما تفوقت هذه الأخيرة على الجميع. فكانت مفارقة لجوء الأطر “القديمة” الى أطر التغيير والتعبير “الجديدة” هذه.

* * *

أول من أخضع الـ”فايسبوك” لهاتين الوظيفتين الجليلتين، أي التعبير والتغيير، كانت الثورة التونسية، ومن بعدها المصرية. الشباب الذين كانوا قد ألِفوها منذ سنوات قليلة جداً، تمكّنوا من التعبير عن غضبهم حيال ممارسات الشرطة، عبر بثّ أشرطة فيديو التعذيب خصوصاً؛ فكانت قدرتهم على التغيير من طريق التنظيم، بواسطة الـ”فايسبوك” قبل الـ”تويتر” وبعد الـ”بلوغ” (blog). كانت صورة خالد سعيد، الذي ضربته الشرطة حتى قتلته بعدما “اشتبهت” به لدى خروجه من أحد مقاهي الإنترنت في الإسكندرية، هي التي أشعلت ثورة الثمانية عشر يوماً المصرية، وأفضت الى سقوط حسني مبارك والدخول في عهد جديد. إلا ان هؤلاء “الناشطين الإلكترونيين” الشباب، طليعة عصر نضالي تغييري جديد، لم يجدوا مكاناً لهم في واقع عهد ما بعد ثورة، هم أطلقوها ونظّموها وقادهوها. وائل غنيم، أسماء محفوظ، علاء عبد الفتاح… وأسماء أخرى أقل شهرة، أين هي الآن من المعادلة السياسية المصرية الراهنة؟ ولاعبوها الرئيسيون، الجيش و”الاخوان”، ثم “الشارع الثوري”، الذي لا تجد فيه أسماء هؤلاء، وإن وجدتهم، فملتحقين بواحد من القطبين الرئيسيين، ومن بعدهما القطب الثالث، الأضعف؟ الإجابة عن هذه التساؤلات المريرة تجدها في الهامش الواسع الواقع بين عالم الإفتراض وعالم الواقع؛ كان شباب الثورة “الشبكيون التواصليون” أقوياء في العالم الأول، شبه غائبين عن العالم الثاني، حيث موازين القوى الحاكمة لمجريات ما بعد الثورة. فكانت أولى “الصدمات” الإفتراضية، التي تضجّ الشبكة بالتعبير المرير والساخر عنها.

لكن المشكلة لا تقف عند هذا الحدّ. فالتغيير الذي ينشده “الفسابكة” ليس كله نحو الإفضل، نحو الغد. إنما هناك من يمتطي الشبكة بذكاء وفاعلية، وينتمي الى عوالم الجاهلية والإرهاب والظلام. التنظيمات السلفية والجهادية والإخوانية، كلها تعْبر شبكات التواصل بصفحاتها وحساباتها الخاصة: فيها تدرّب على صناعة السلاح المنزلي واستخدامه، فيها تفسّر وتفتي وتصدر من الخطب والأحاديث، وباللغات الشتى، خصوصا الانكليزية، ما تعتبره مادة “تربوية تثقيفية” أساسية للمنتسبين اليها، منها تجنّد الأفراد وتحشو عقلهم وتنظّم “نومهم” ونشاطهم… الخ. كل هذه الأنشطة تدخل في صميم وظيفة العالم الشبكي، أي التعبير والتغيير المعولم.

ما ينفي الصفة الاولى التي التصقت بها الشبكة، من انها “بريئة”، تدفع المتعاملين معها، ومن تلقاء انفسهم، الى الدخول إلى عالم المستقبل، وليس العودة الى الجاهليات. فعندما يكون للإرهاب الاسلامي والنازية الجديدة والمجموعات العنصرية صاحبة الفوبيات من كل شيء…. عندما يكون لهؤلاء منبر كهذا، يسخّرونه مجاناً للإنتصار لقضيتهم، تصبح “براءة” الشبكة محل سؤال وتفكير وتدبير. هذه واحدة من الإشكاليات، خلقتها الشبكة، سوف يكون على الأجيال المقبلة ربما بلورتها وتقنينها وتنظيم حركتها وقوننتها، بما لا يتعارض مع الحرية الإفتراضية المحسوبة عليهم، أي “الفسابكة”.

* * *

لكن مهلاً. قبل ذلك، ماذا حقق الـ”فايسبوك” من طموحه المستقبلي؟ أو، ما الذي أدخله من تطوير على ما كان رسمه، ربما، سلفاً؟

أوله، انه سمح لكل فرد منا يعرف الكتابة والقراءة، وقليلاً في التكنولوجيا، أو كل فرد من جيل متقدم، كسَر “الحاجز النفسي”… بأن يدوّن أو يصوّر أو يعلّق على أي حدث يعتبره مهماً وينقله الى “أصدقائه”، الكُثُر دائماً. بذلك، سمح ببزوغ ما بات يسمّى “المواطن الصحافي”، الذي ينقل معلومة لا تستطيع الوسائل التقليدية من تلفزيون وصحافة ورقية وحتى الكترونية، نقلها؛ إما لحسابات سياسية أو تمويلية، وإما لنقص في المخيلة أو لصغر في العقل. بعد المعلومة، يأتي الرأي، الرأي في الحدث أو الخبر أو أي مادة سياسية فنية ثقافية تكون قابلة للتعليق، أو التعقيب أو الإضافة، أو طبعاً “اللايك”. من هذه الآراء تندلع السجالات والنقاشات التي باتت الآن هي نفسها مادة إعلامية بامتياز؛ وسائل الإعلام التقليدية، من الورقية والمرئية والالكترونية، صار من بنودها شبه الثابتة النقاش الذي دار على الشبكة حول هذه أو تلك من القضايا، الشائكة أو المسلية أو المثيرة. أو أن الشبكة نفسها، في أحيان أخرى، هي التي تخلق النقاش وتتوزع في ما بين “أصدقائها” على اقطاب محاوره، بل هي التي باتت تشارك، عبر التصويت والتعليق، في صناعة نجوم الفن الجُدُد أو تصحيح سمعتهم، أو تلويثها، أو في ترسيخ شعبية القدماء منهم الخ. هذا كله فوراً، “لايف”، من دون انتظار البوسطجي أو التلغراف أو السفينة أو الطائرة أو السيارة المحمّلة معلومة، وكله، في معايير اليوم، انتظار غير متصوَّر.

الكثيرون شبّهوا هذه الشبكات بالهايد بارك البريطاني العتيد، حيث كان يجتمع قومٌ من الناس، خصّصت لهم الحكومة من العام 1872 إحدى أجمل حدائق العاصمة، لندن، ليقولوا فيها ما يشاؤون، بعدما شعرت هذه الحكومة بحاجة الناس الى الإجتماع في مكان عام ليعبّروا عن رأيهم بحرية (تصور! قبل أكثر من قرنين، تشعر الحكومة البريطانية بهذه الحاجة!).

حرية التعبير: ليست هذه كل فضائل الـ”فايسبوك” وأخواتها. لكل صاحب هوى فيها غرض، عائلي، علائقي، سياسي، فني، غرامي، فضائحي، فكاهي، علمي، تسويقي، تجاري، تبشيري، تعبوي. كلٌّ في الـ”فايسبوك” يجد ضالته. فيها تعثر، لو بحثتَ، على أصدقاء تواروا، أصدقاء جدد، قرّاء ونقّاد لنصوص مشتركة، أو لمواقف سياسية بعينها. بل وجدتُ نفسي منذ عامين، أستخدم الـ”فايسبوك” كميدان بحثي، أرسل بواسطته أسئلة الى أصدقائي وصديقاتي المنتشرين في أنحاء الدول التي شهدت ثورات، عن المشاركة الميدانية للنساء فيها. للـ”فايسبوك” بالتأكيد امكانات أخرى، أكثر تعقيداً أو تطوراً مما أتصور، أنا ابنة الجيل “السينيور” فيها، التي بالكاد تحرّك الفأرة صح، من دون أن تصاب بهلع عدم الفهم، أو اختفاء الصورة أو النص، أو ضياع المعلومة المطلوبة.

والحال أن الـ”فايسبوك” أيضاً، مثله مثل كل الأطر والأدوات الحداثية والمابعد حداثية التي قدمت الينا من الغرب، ارتدى حلّتنا الإجتماعية والثقافية، من دون إنذار وتأخّر. الـ”فايسبوك” العربي اللسان، المشرقي والمصري الجغرافيا، ليس مجالاً مسالماً ولا حديقة أزهار وفيرة، إنما أشواك ومتاريس واصطفافات. قليلة، ونادرة، هي تساؤلاته، نقديته، خروقه للإنقسامات والعقائد والثوابت. هو بالأحرى محلّ تراشق عنيف، ومزايدات وترسيخ للإيمانات الدينية والزمنية، لتكوين نوع من الأستاذية الجديدة، أو النجومية الـ”فايسبوكية”، القريبة من نجومية التلفزيون.

أما السمات الأكثر عمومية، فتتعلق بالتكوينة الأساسية أو الفكرة المكوِّنة للـ”فايسبوك”، التي في وسعك ان تلحظها من دون أن تكون متخصصاً في التكنولوجيا. أول ما تفتح صفحتك عليها، يطرح عليك المبرمجون على “حائطك” ما يجول في عقلك (what’s on your mind?)، وبإلحاح ومن دون هوادة، مهما كان الوقت، مهما كان الإستعداد، النفسي أو الجسدي، لقول ما في بالك؛ كأن هذا العقل آلة قول، قبل أن يكون مركز تفكير. انك مدفوع على الـ”فايسبوك” بأن تقول، هذه من وظائفك الأساسية. هذا الدفع يفتح الباب واسعاً على أقوال الكلمات الخاطفة، الجارحة، الصاخبة، العصبية، المبهرة، السريعة، المتدفقة، المتناثرة، المستعجلة، المتهورة، المتفاوتة القيمة؛ الكتابة على الـ”فايسبوك” مثل القراءة؛ “الفسابكة” لا يقوون على قراءة مقطع من أسطر ثلاثة على الأكثر، المفضل أن يكون سطراً واحداً. يقدمونها على انها قراءة “مختصرة”، لكنها في الواقع مختزلة. طبعا هذا ما يسنِّن الكلام ويعطيه قوة دفع، لو كان بليغاً، ندياً، ساخراً، خصوصاً ساخراً. لكن سياق معظم “الفسابكة” التناحري لا يكتفي بإفراغ قوة الكلمة، بأن يجعلها لازمات قديمة على تنويعات قديمة أيضاً، إنما يفرغ أيضاً قوة القراءة، لحساب الصورة. أرقام الصورة مذهلة: منذ انطلاقة الـ”فايسبوك”، “نزلت” عليها 250 مليار صورة، بمعدل 350 مليون صورة يومياً، أي 4000 صورة في الثانية.

هذه حالٌ في طريقها أيضاً الى تفريغ معنى العواطف التي تنطوي عليها الكلمات المقترحة من مديري الـ”فايسبوك” انفسهم. خذْ مثلا فعل “لايك” (like) محور الـ”فايسبوك” بامتياز، صانع المواقف والفاعليات والشخصيات والنجوم والعداوات والتجاذبات، وكل الديناميات المحرّكة للحياة على الـ”فايسبوك”. الـ”لايك” هذه، مثلا؟ ماذا تغطي بالضبط؟ التأييد؟ الموافقة؟ التضامن؟ المشاركة؟ الحب؟ الإعجاب؟ (في النسخة العربية، ترجمت بـ”الإعجاب”) بل أحيانا ليس معروضاً علينا بعد مشاهدتنا لصور أو شرائط عن مجازر مروعة إلا أن نضغط على “اللايك” لنقول إنها بلغتنا، أو أثّرت فينا، أو آلمتنا. أمامك إما أن “تليّك” أو تعلّق. وبما انك مستعجل ولا تستطيع أن تعلّق على كل شيء، وأصدقاؤك كثر، “تليِّك” وتمشي، من دون أن يكون لفعلك هذا معنى دقيق. مثل الدعوات الى التقاسم (share) او “التاغ” (tag) الذي يقع معناه بين التقفّي والمطاردة، كلمة “لايك” تعني كل شيء ولا شيء معيّناً من المشاعر أو المواقف أو التصورات. الأرجح ان الذين “اخترعوها” لا تؤرقهم الأعماق والتلاوين التي تبحر بها اللغات الحية كلها، ومنها لغتنا. تجنباً لانزلاقها نحو الإختصارات التي تفرغ روحها، اقتراح أن يعرَّب الـ”لايك”، ويدخل القاموس العربي كما هو، “لايك”، بصفته فعل استحسان، ابتكرت معانيه مؤسسة “فايسبوك”.

نقطة أخرى: أوهام الحرية المطلقة التي توحي بها أنشطة الـ”فايسبوك” المختلفة. طبعاً بعد فضيحة التجسس الأميركي على العالم كله، قادة ومواطنين، وخصوصا على الحلفاء، صارت من النوافل والصغائر قصة الرقابة التي تقيمها إدارة الـ”فايسبوك” على “زبائنها”، أي نحن، “الأصدقاء” فيها، والمعلومات اليومية التفصيلية التي تبتدع كل موسم شكلاً جديداً من السؤال عنها… آخرها، أو بالأحرى آخر ما فهمتُ أن هذه الإدارة ضخّته، هو ذاك السؤال الذي وضعته على كل من أجاب بـ”نعم” على طلب الصداقة معك، والذي يريد أن يعرف إذا كنت تعرف هذا الصديق الجديد قبل ذلك، خارج الـ”فايسبوك”. ما بلغنا حتى الآن، نحن جمهور “الاصدقاء”، أن كل المعلومات التي تجمعها هذه الإدارة، تبيعها الى الشركات المهتمة بميولنا وأذواقنا وعاداتنا الاستهلاكية، بعد الأسئلة التفصيلية الشديدة الحشرية بخصوصياتنا، تحت بند “البروفايل”، أو غيره.

إدارة الـ”فايسبوك” تستدعي “الأخ الكبير”، الذي رسمه الأديب البريطاني جورج أورويل في رائعته “1984” الصادرة عام 1949، متخيّلاً عالم الغد تحت الرقابة الشديدة لحريات الأفراد واختراق أكثر خصوصياتهم حميمية. الإختلاف بين الاثنين، أي “الأخ الكبير” للرواية وإدارة الـ”فايسبوك”، “الأخ الأصغر”، هو ربما أن الوجود في الأول، الرواية، لم يختره الواقعون تحت رقابته الصارمة، فيما الدخول الى الثاني، طوعي، متعمَّد، خصوصاً لمن كان ملمّاً بإنجازات العصر وراغباً بالإنخراط في مجالاته التعبيرية والتغييرية الجديدة. اختلاف آخر، يضيف رقابة “صغيرة” على رقابة “الأخ الأصغر”؛ هي رقابة أرباب العمل أو المسؤولين أو مسؤولي عمل سياسي أو اجتماعي ما، أو مديري ومدبّري علاقات عامة، صريحة أو مبطّنة، على كلمات وأقوال يبوح بها نفرٌ من الأصدقاء الفسابكة. لقياس هذا النوع من الرقابة، يكفي تعداد “حالات” الطرد أو الفصل أو الجفاء أو القطيعة او التوبيخ أو الإنذار أو التهديد، أو أيّ نوع من أنواع العقاب، يتعرض له أحدهم عندما تنال كلمة “حائطه” واحداً من الحصون الذي وضعها “أقوياء” الواقع على صورتهم أو تصوراتهم أو مسالكهم أو أخلاقهم أو كفاءتهم. مثلهم مثل “الأخ الكبير”، آذانهم وعيونهم لا تنام على “الحقائق” التي تعرضها “حيطان” الفسابكة. الرقابة على هذه الضمائر المنشرحة تحمي حصون أولئك “الكبار”، من دون ضجة كبيرة، وغالبا بخبث لا يساعد الواقع الواقعي على كشفه؛ هو المربوط بضفائر رقيقة من العلاقات العامة والوجاهات المتبادلة والمصالح المتشابكة، المعطوفة على عصبيات وانقسامات وبنى ما قبل حداثية، ما قبل “فايسبوكية”. يشبه الـ”فايسبوك”، بدخوله المفاجئ والكاسح على أنشطتنا التعبيرية والتغييرية، هبوط أي إطار حداثي علينا، يتطعم بسرعة صاروخية بكل موروثنا غير الحداثي، فيخلق أوضاعا جديدة، سمتها الأساسية الفوضى والتشابك الشديد التعقيد بين البنيتين الجديدة والقديمة. ما يستدعي بعد حين وعياً لهذه الفوضى، وصفاً لها، نقداً لها، ولاحقاً، محاولات لتنظيمها أو تقنينها أو قوننتها، أو الحد من الأمراض أو المشكلات أو المشاحنات التي تدور رحاها في ربوعها الإفتراضية.

نظرة عامة على عوالم “فايسبوكية” أخرى، تقع في مجالات حضارية أخرى، بدأت تخصَّص لها الأفلام والروايات والاستقاصاءات والإحصاءات. ماذا تجد فيها؟ أشياء كثيرة بالتأكيد، لم تُحصَ بعد، نظراً إلى جدّتها. لكن متابعة بعض أخبارها يفيد بأنها، مثلنا، تصطدم عوالم الشبكات بالواقع الواقعي، أو تخلق ظروفاً، أو صراعات، أو تلاعبات، أو مشاحنات، أو قواعد تعامل، أو معايير أو نجومأ… كلها جديدة، كلها نتيجة الاحتكاك اليومي بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي.

الكتابة عن الـ”فايسبوك” مثل الكتابة عن عالم متحول، يتفوق على عالمنا الواقعي بإمكاناته التعبيرية والتنظيمية غير المحدودة. شعرتُ وأنا اكتب هذه الصفحات كأن هناك أشياء كثيرة تغيب عني، أحدسها حيناً، أدركها أحياناً أقل، تغيب عني غالباً. الآن فقط، أنتبه الى أنني لم أنلْ إلا قدراً متواضعاً من عوالمه المتفرعة بعضها عن البعض الآخر. قد يكون انكبابي المتقطع عليه، أو عمري نفسه؛ فأنا ابنة جيل أعطى الكتاب والقراءة القيمة الكبرى، وهما يحتاجان الى وقت، يضيّعه الـ”فايسبوك” في الكثير من الكلمات المتقطعة، في فائض عشوائي من التعبير، ونقص حاد في القدرة على التغيير.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى