في الفاطمية والسفيانية السياسية/ يوسف معوّض
“إن الفاطمية، يجب أن تأخذ دورها!” كلام على المكشوف صدر عن المقدم محمد عمران وكأن الأقنعة سقطت واللعبة بانت على حقيقتها. كان ذلك، في أواخر سنة 1964 عندما احتدم الصراع بين جناحي البعث المتحكم بسوريا وتحديداً بين “اللجنة العسكرية” من جهة وأمين الحافظ رأس السلطة وقائد القوات المسلحة من جهة أخرى.
اللجنة العسكرية قوامها خمس ضباط بعثيين صدف أن تابعوا في زمن الوحدة دورات تدريبية في مصر: المقدم محمد عمران والرائدان صلاح جديد وأحمد المير والنقيبان حافظ الأسد وعبد الكريم الجندي. جميعهم، تجدر الاشارة، من المذاهب الفاطمية، ثلاثة علويين واسماعيليان. كان هؤلاء الضباط “مشتركين في غريزة قديمة، غريزة الكتمان والتقية التي تتصف بها مجتمعات الأقليات المضطهدة في الشرق الأوسط”. الملاحظة هذه لباتريك سيل في كتابه “حافظ الأسد: الصراع على الشرق الأوسط”.
والكاتب هذا صديق عائلة الأسد المالكة سعيداً في دمشق، وقد كلف ببعض المهمات الخارجية لحساب الدولة السورية في مطلع هذا القرن نسبة إلى ما أولي من ثقة من قبل النظام وأهله. ورغم تفاني هذا الكاتب في إعطاء صورة ناصعة وفوق الشبهات لآل الأسد من ناحية التعصب المذهبي، لم يسعه التغاضي عن حقيقة الواقع الاجتماعي القائم، واقع ما كف أصحاب العلاقة يوماً عن محاولة كتمانه! فكيف بإخفاء صراع مذهبي يتأجج تحت الرماد، صراع بين مجموعات وتكتلات تكاد تشهر طائفيتها دون تستر عند اشتداد الأمور.
اما الديبلوماسي نيقولاوس فان دام Nikolaus Van Dam، فكان أكثر وضوحاً من باتريك سيل المذكور آنفاً، في كتابه “الصراع على السلطة في سوريا” وتحديداً في الفصلين الثالث والرابع تحت العنوانين التاليين: “الاستقطاب الطائفي في القوات المسلحة السورية بين السنّة والأقليات الدينية” و”تصفية الضباط الدروز ككتل منفصلة” إلخ. صرّح فان دام ودون مواربة ان تسلق الضباط الاقلاويين أعلى الهرم كان يعتمد على دعم ضباط ينتمون إلى جماعتهم المذهبية من علويين ودروز واسماعليين. مما جعل رفيق الحزب والدرب أمين الحافظ السنّي الملّة يتهمهم بـ”الاتصالات الجانبية” أي المذهبية حسب التسمية المتعارف عليها.
ومع أن الخلاف بلغ أوجه داخل القيادات البعثية إلا أن الثنائي العلوي صلاح جديد – حافظ الأسد كان يلتزم الكتمان، فالجميع ينتمي إلى حزب البعث والحزب علماني، أقله في الواجهة. وللتذكير فإن المادة 15 من دستور حزب البعث العربي الاشتراكي تنص على التالي: “الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة… وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والاقليمية”.
استقر الأمر لمصلحة حافظ الأسد في 1970 وأدخلت بعض التعديلات على هرمية السلطة دون أن تمس أرجحية العلويين في المفاصل الحساسة من عسكرية وحزبية وغيرها. فجاءت دراسة حنا بطاطو Social Roots of Syria’s Ruling Military Groups صيف 1981، تضع الإصبع على الجرح. فأشعلت جدلاً وغيظاً في صفوف الطائفة النصيريّة التي نالت حصة الأسد من مواقع النفوذ في ظل حكم البعث، وكان الدكتور بطاطو قد فنّد الموضوع واستفاض في إظهار المكانة المتعاظمة لأبناء طائفة لا تشكل سوى 12% من عداد الشعب السوري.
بالعودة إلى ما سبق وما أن أبعد كل من محمد عمران وأمين الحافظ عن مواقع السلطة حتى احتدم الخلاف بين ضابط علوي وضابط درزي، بين صلاح جديد وسليم حاطوم. انتهزت عندها الفرصة صحافة بيروت وراحت تنقل الأخبار وتذيعها على الملأ. ضاق حزب البعث ذرعاً بنشر الغسيل، وقامت سجالات بين جريدة “الثورة” الصادرة في دمشق وجريدة “الحياة” اللبنانية. كان هذا في سنة 1966، وما فتئت الصحيفة الأولى تتهم الثانية بالاصطياد في الماء العكر لاشعال الفتن المذهبية والقبلية بدافع من البريطانيين. وهذا الصراع المذهبي الذي كان يتخفى تحت ألف ستار وستار، كان لا بد من أن ينفجر صداماً بين مناضلي الصف الواحد في سعيهم لاقتناص الحكم. مما يفسر بعض ما نشهده اليوم!
سوريا، أهي دولة علوية؟
في أيام بني امية كانت الدولة أموية أو كذلك عرفت في كتب التاريخ، وفي عهد بني العباس كانت الدولة عباسية. فهل من دولة علوية في سورية في العقود الأربعة المنصرمة؟
الجواب عند الدكتور عزيز العظمة في مقال صدر له في جريدة “النهار” في أواخر نيسان 2011(*)، يقول فيه: “ما ذهبت أبداً إلى الرأي القائل بأن سوريا دولة علوية، كما لم أذهب في الماضي إلى الرأي القائل أن عراق صدام حسين كان دولةً سنيةً. إن سوريا دولة وطنية اختزلت إلى سلطة تستتبع شبكة من البيوتات والمصالح، وفي هذه التركيبة أولوية لسوريين ذوي أصول علوية. ولكنه ليس باستطاعتنا القول إن الطائفة العلوية كطائفة هي الحاكمة… وإن رأينا أفراداً علويين منتفعين من بنية السلطة بنسب أعلى من غيرهم في بعض المجالات، فإن هذا لا ينسحب على العلويين كعلويين، فإن أفراد الطائفة متباينون اجتماعياً، منهم النمرود ومنهم المسكين، وإن من استصفي منهم داخل شبكة الاستتباع الثائرة في سياق ما سماه ابن خلدون الانفراد بالمجد قد استثنى آخرين خصوصاً بعد تصفية نظام 23 شباط، وبعد تصفية شبكات رفعت الأسد”.
ويضيف الدكتور عزيز العظمة: “إن القول أن طائفة تحكم يستند إلى مفاهيم عامية لا سند لها في علم الاجتماع السياسي – ثم إنه لأمر مشهود أن الشبكة الاستتباعية للسلطة لا تقتصر على العلويين بل هي مشتملة أيضاً على سنة ومسيحيين وغيرهم”. فما هي إذاً مواصفات هذه الدولة التي حكمت سوريا تحت شعار “وحدة، حرية، اشتراكية”؟
يقول ميشال سورا Michel Seurat ان سوريا هي دولة – الجماعة État – Jamaa مع كل ما يمثل ذلك من وحدات وتكتلات متحالفة ومتقلّبة ومتناحرة في كنف الحكم. يتحكم باللعبة الدائرة مبدأ العنف وتوزيع المغانم وضروب النكث بالعهد والتوازن الهش والاضطرابات. لكن صدف أن تأمن في ظل حافظ الأسد جو من الاستقرار والاستمرارية في النظام، فكان الاستئثار بالسلطة لمصلحة فريق ضيّق. وكان له الانفراد بالمجد، وهذا ما برحت تشتكي منه الأكثرية السنية، مما أدّى إلى تنامي الشعور الطائفي بين فئات المجتمع المنصهر عنوة تحت راية العروبة والاشتراكية.
فهل هناك من فاطمية سياسية مسؤولة عن ما يدور في سوريا كما كانت هناك مارونية سياسية حمّلناها بالنتيجة وزر الحرب الأهلية في لبنان؟
444 هجرية
جاء في كتاب محمد علي مقلد “الشيعية السياسية” أن عقد المشاريع المذهبية في لبنان قد اكتمل مع مشروع الشيعية السياسية. “المارونية السياسية كانت البداية، منها انطلق لبنان الحديث، وعليها تأسست أسباب الصراعات الأهلية التي بلغت ذروتها في انفجار حرب دموية مدمرة في عام 1975”. يعرف الكاتب المذكور عن الحقبة قائلاً: “الشيعية السياسية هي المشروع المذهبي الثالث، أما الثاني فهو مشروع السنّية السياسية التي توارت خلف اليسار اللبناني والمقاومة الفلسطينية”.
أصحيح ان المذهبية السياسية لم تنشأ إلا مع قيام المتصرفية ولبنان الكبير، أي مع تبلور الايديولوجية المارونية؟ المسألة فيها نظر! انما الغبن المذهبي الذي طال شرائح واسعة من “الرافضة” في المجتمع العربي لا يعود إلى البارحة ولا يقتصر على جبل لبنان ولا يُختزل بتاريخه الحديث أو المعاصر! هنال احساس بالحرمان لم يعالج قط وأكثر من دعوة للانقلاب على الوضع القائم منذ نشأة الدولة الاسلامية. كنا على مقاعد المدرسة نردد أبياتاً للشريف الرضي يطالب فيها باستعادة الخلافة لمصلحة أهل البيت: وكانت صرخته مدوية “ردوا تراث محمد، ردوا”. ناهيك عن سنة 444 هجرية التي يقول فيها ابن الأثير: “حدثت فتنة بين السنّة والشيعة في بغداد، وامتنع الضبط، وانتشر العيّارون، وتسلطوا وجبوا الأسواق، وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال، وكان مقدمهم الطقطقي والزيبق” وغيرهم من “الشّطار والعيّارين والدعّار والزعار والطرّار” وغيرهم من اللصوص وقطاع الطرق الذين راحوا يسلبون الناس بحجة أنهم “يأخذون حقهم في الزكاة”. وهذه الأمثال غيض من فيض!
أما اليوم وبعد غزو العراق أميركياً، صار واضحاً ما لحق بأهل السنّة والجماعة في بلاد ما بين النهرين من تهميش. حرموا المشاركة الحقيقية في القرار السياسي على الرغم من وجود ممثلين لهم في الحكومة. وهم يشكون اليوم من مظاهر تكرس “الحالة الشيعية” في الشوارع والدوائر والمؤسسات الرسمية في بغداد عبر تعليق صور رموز الطائفة المنتصرة والملصقات الخاصة بمناسباتها الدينية، ناهيك عن الاعتقالات التي تطال أبناء ونساء الطرف الآخر السنّي الذي “تبنّى” تسمية “الطائفة المظلومة”. ولقد حذرت وزارة الخارجية السعودية العراق من التطرف المذهبي بعد احتجاجات السنّة ضد الحكومة المركزية.
ماذا حلّ بالعروبة الجامعة؟ لا بل أين صارت العرب اليوم؟ ألم ينعت الأخضر الابراهيمي منذ حوالى سنة خطط الرئيس السوري بشّار الأسد بالطائفية. في المقلب الآخر نجد بعض الغلاة يحذرون من خطر انقلاب عسكري يأتي بقائد سوري عميل لأميركا وإسرائيل لقبه السفياني! وكأننا ما زلنا نعيش فصول صراعات مستعرة منذ فجر الإسلام على حد قول أبو العلاء المعرّي ” واسم الحرب هند وزينب”.
مجرّد مقاربة …
مع اندلاع الحرب اللبنانية صدر كتيب تحت عنوان “المارونية السياسية، سيرة ذاتية”. وجاء كناية عن مراجعة اسلوب حكم الموارنة في لبنان وكان السؤال: “فماذا يفيد التوغل أكثر في العقل الماروني السياسي ومؤسساته”؟ توغل الكتيب فضح محوراً عقائدياً وفكرياً هو فكرة الكيان اللبناني المقدس في ذهنية الماروني سياسياً، و”الكيانية هي نزعة استقلالية ذات حساسية خاصة تجاه العرب وتخوف على الذات من محيط بشري ضخم يعتنق ديناً آخر…”. أليس هناك من أوجه شبه بين الفاطمية السياسية والمارونية السياسية أقله من جهة الاحساس بالغبن التاريخي وعلى مستوى الحذر من المحيط الأوسع مذهبياً؟
لنسأل كمال صليبي الذي راجع تجربة الحكم الماروني في أكثر من كتاب ومحاضرة. وهو الذي قال إن الموارنة فسدوا وأفسدوا إلا انهم لم يظلموا. طبعاً هذا الكلام لا ينطبق عليهم عندما تمكنت ميليشياتهم من الحكم على مساحة ضيّقة من الأرض. أما أيام الجمهورية الأولى حين كانت لهم صولات وجولات لم يعتمدوا القهر والتعذيب أداة للحكم. بل أسسوا لفوضى اقتصادية أمنت ازدهاراً واكبته حرية في التعبير مستهجنة في الشرق العربي! وربما هذا ما كان يتوق اللبناني إليه خلافاً لخطابات البعض والشعارات المرفوعة. أما سوريا فكانت على نقيض ذلك مستعدة للتضحية من أجل تأمين دور يحسب له حساب في خضم الأحداث. بقيت مستنفرة منذ عهد الاستقلال ومنذ ضياع فلسطين مطالبة بالعز الغابر. يقول عمر أبو ريشة مخاطباً “عروس المجد” ان شعب سوريا كان يعلم أن مهر العزة غالٍ فلم يرخص المهر ولم يحتسب.
في الأمس لم تكن جماهير دمشق تطالب برغد العيش بقدر ما طالبت بالوحدة، مما دفعها إلى تسليم أمرها لعبد الناصر بشكل متهور وكانت الحصيلة الانفصال. همها كان استعادة الأمجاد الغابرة للتغني “بالمروءات التي عرفتها في فتاها العربي”. فظهر حافظ الأسد، الذي احتل لبنان واستباح المنظمات الفلسطينية وهمّش الأردن ودجن دول النفط. فكان مرهوب الجانب شعاره الممانعة في وجه كل مغتصب لحقوق العرب. فارتاحت البلاد السورية وتوجته قائداً خالداً ورضيت قانعة بطبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.
وها هي تنقلب على نهجه وعلى سلالته وعلى قومه! تلبننت سوريا بالنتيجة. فهي تأبى مقايضة العنفوان في الخارج بالقهر في الداخل. انما المفارقة هي هي: فدمشق الأموية لم تشهد إنبعاثاً مثل الذي شهدته في ظل الفاطمية السياسية.
محام واستاذ جامعي
النهار