في الفيلم الجميل…
حازم شيخو
يصعب مع مرور الزمن التمييز بين الفيلم الجيد والفيلم الرديء، لأسباب عديدة منها انتشار الأسلوب الهوليودي عموماً، وعدم وجود ثقافة سينمائية متكاملة مضادة لهذا الأسلوب التقليدي، وخاصة بأن هوليوود تمتلك تراثاً لا يمكن الاستهانة به، وأيضاً ثمة نزعة ثقافية كبيرة تدافع عنه وتحتفي به.
وابتعاد الناس عن مشاهدة السينما القديمة سواء السينما الهوليودية أو أي سينما أخرى، هو ميل عام إلى تقبّل أي شيء جديد يؤمّن التسلية والفائدة، ولكن هاتين الكلمتين بالذات هما المفتاح لمعرفة السينما الجيدة أو الحقيقية.
ومن المؤكد أنه لا يمكن فصل الفن عن الترفيه، فبالترفيه تتغلغل الأفكار إلى أرواحنا، ولكن ما هي التسلية؟ وكيف يمكن لي أن أميز العمل المسلي عن الممل؟
لقد اعتدنا على نوع معين من التسلية، وتسلية الشباب تختلف عن تلك التي يستسيغها الكبار، فأيهما الصحيح؟ هل الترفيه الحالي هو الحقيقي أم القديم؟ طبعاً يمكننا القول بأن لكلّ زمن مهرّجيه، ولكن إلى أي مدى يصحّ هذا الادعاء؟ أرى بأنّ الفنّ عموماً يتمحور حول فكرة واحدة منذ نشوئه وحتى الآن، أي أنه ثمة عنصر داخليّ مؤثر يقوم عليه، وتتطور الأشكال والصيغ التي تتبناه ولكنه يبقى دائماً موجوداً ومحافظاً على أصالته، وهو بكل تأكيد يحتوي على مضمون العمل الفني وكذلك على مدى معين من الترفيه، أي أنه لا بدّ لهذا العنصر أن يكون عميقاً ومسلياً ومتغلغلاً في كل عمل، ولذلك لا بدّ من وجود رابط داخلي ومتين بين أعمال هوميروس ودوستويفسكي، ولا بدّ لهما أن يكونا مرتبطين بغويا الإسباني وفيلليني الإيطالي، ولا بدّ أن يكون ثمّة جوهر يربط نتاجات هؤلاء المبدعين بعضها ببعض، ويرفعها إلى مصافّ الجميل.
وهذا يدعوني إلى التفكير بوجود ترفيه راقٍ معيّن يربط الأجيال البشرية بعضها ببعض، ولكن كيف نستطيع إدراك هذا الترفيه؟ يمكننا القول بأنه ثمة نخبة من الناس قادرة على تذوّق ما نفضّل تسميته هنا بالسينما القديمة المميزة أو الحقيقية، إذاً لقد وصل هذا الجوهر إلى الجيل الحالي ولكن لم ينتشر لدى جميع الشباب، وأحسب أن الفنّ كان دائماً مقتصراً على أقلية معينة من الناس، وإنّ تذوّق الجميل يحتاج إلى تدريب وتهذيب، ولكن كيف يمكننا القول عن شيء بأنه جميل؟ ربما يجوز لنا أن نكتفي بجواب واحد وبسيط بأنه خالد ويعصى على الزمن تجاوزه. وإذن يحقّ لنا أن نعتبر السيمفونية التاسعة لبيتهوفن عملاً جميلاً، ولكنها قطعة موسيقية لا يتذوقها كل البشر، وكيف يمكن لمن تعوّد الضجيج والتلوّث الصوتي الذي نعيش فيه الآن أن يتذوّق هذا العمل؟ وأقول تلوثاً صوتياً لأن هذه الأعمال التي نسمعها اليوم هي أعمال زائلة، ولا تبقى إلا أياماً قليلة، فهي أشبه بالمسكنات يزول مفعولها متى اعتدناها، وبعدها نحتاج نوعا آخر من المسكنات، وتستمرّ بنا الحال هكذا دون أن نتمكن من الحفاظ على وعينا وحاسة التذوق لدينا.
وهذا يقودني إلى التفكير في أنه لو نشأنا على مشاهدة أعمال سينمائية من إنتاج مخرجين كبار من أمثال برغمان وتاركوفسكي وفيلليني وبازوليني وبونويل وويلز وأنطونيوني… إلخ، ألا تعتقدون مثلي بأننا كنا سنجد هذه الأفلام مسلية وننبذ أفلام هوليوود المكررة والتقليدية لما قد تسببه لنا من ملل؟ يجوز ذلك، حيث أظن بأننا في هذه اللحظة قد نشأنا على نوع معين من الترفيه، يروج له الإعلام صباح مساء وهو في النهاية لا يقود إلى شيء، سوى إلى التكرار والتقليد والخدر.
ثمة شيء آخر: يمكننا مشاهدة أي فيلم من إنتاج هوليوود مثلاً مرتين في اليوم الواحد وقد نستيقظ في اليوم التالي ونشاهده مرة ثالثة، ولكن أحسب أننا قد نحتاج سنة أو في أقل تقدير ستة أشهر حتى نستطيع مشاهدة فيلم “المرآة” مثلاً لتاركوفسكي مرّة ثانية. ليس هذا طبعاً السبب الوحيد لتمييز الفيلم الجيد عن الرديء، ولكن أيضاً لا يمكننا تجاهل هذا العامل، فينبغي للفيلم أن يكون مستفزاً ومثيراً، ينبغي له أن يثير حواسنا جميعها، ولا أرى أيّ جمالية في الفيلم الذي يحوّلنا إلى مشاهدين سلبيين خدرين… لا ينبغي للفيلم أن يكون سهلاً وطيعاً، بل أن يكون عميقاً وممتنعاً، أن يخلق لدينا أفكاراً ومشاعر جديدة، وباختصار أن يكون خلاقاً.
إن السهولة في التعاطي مع كلمة الترفيه تنسحب أيضاً إلى المعنى والمضمون، فكلمة الفائدة هنا تبدو مبتذلة وسطحية، وتشير بصورة فورية إلى تلقي المعلومات، وأرى أن نستعين هنا بكلمات الشاعر الإنكليزي ت.س. إليوت: “أين هي الحياة التي ضيعناها في العيش؟ أين هي الحكمة التي ضيعناها في المعرفة؟ أين هي المعرفة التي ضيعناها في المعلومات؟”
وهنا يمكننا التمييز بين ثلاثة مستويات من الثقافة لا يمكن الفصل بينها ولكن أيضاً لا يمكننا الاعتماد على أحدها فقط. وأحد هذه المستويات هي ثقافة المعلومات، والتي كما يشير اسمها تحتوي على المعلومات فقط بأي وجه كانت وبأي مجال، وهي أضعف أنواع هذه الثقافات لكنها بكل تأكيد تأسيسية وتقود بالتدريج إلى المستوى الثاني من الثقافة ألا وهي ثقافة المعرفة، وهذه تتجاوز المعلومات وتتغلغل في كل مجالات الحياة، هي كل صور الثقافة، هي الفلسفة وعلم النفس وعلم الفلك، هي العلوم جميعها، ومع ذلك تبقى سهلة وطيعة وبعيدة عن الجميل، إنها تقود فقط- من يريد الوصول حقاً- إلى المستوى الأول: ثقافة الحكمة، وفي هذا المستوى يكمن تذوق الجميل وهنا تتبلور الأخلاق، وطبعاً هي المستوى التي حاولت الوصول إليه جميع الأديان والفلسفات والفنون.
وهنا تكمن حقيقة وأصالة العمل الفني، فينبغي لكل فيلم أن يفتح لنا آفاقاً جديدة، وأن يعمّق وجودنا وأن يثير الجميل فينا، ولا ينبغي للفيلم أن يقودنا إلى التشاؤم أو التفاؤل، بل أبعد من ذلك، ينبغي له أن يحفّز فينا أفكاراً ومشاعر خلاقة.
ولا يمكننا تصنيف العمل الجميل بين الواقعي أو السوريالي، بل أكتفي بكلمات المخرج الأمريكي أورسن ويلز عن السينما: “غير واقعية ولكنها حقيقية”.
أجل، هو السعي نحو الحقيقة ما يجمع تاركوفسكي المؤمن الأرثوذكسي ببازوليني الماركسي الملحد، وهو ما يجمع سينما دي سيكا الواقعية بسينما بونويل السوريالية، وهنا يكمن الجميل- بترفيهه وفائدته- في البحث عن الحقيقة.
موقع الآوان