في اللغة والثورة/ مصطفى زين
من البداهة القول إن اللغة تتطور بتطور المجتمع وثقافته. التعبير عن الحاجات البسيطة في المجتمعات المسماة بدائية لا يحتاج إلى لغة العلوم أو اللغة الفلسفية. حتى لغة الشعر تختلف بدلالاتها وإيقاعها وأوزانها من حقبة إلى أخرى. وكذلك القوانين والمفاهيم السياسية المعبّرة عن رقي الإنسان وتحوله من عضو في عشيرة أو قبيلة إلى مواطن في دولة تحكمها الشرائع الإنسانية.
ويمكن للغة أن تتراجع مثلما تتطور، وأقصد اللغة، بما هي تعبير عن ذات الجماعة وما تطمح إليه، وليست لغة الفرد المتأثرة بثقافات أخرى. في هذا المعنى نجد أن التعبير عن المفاهيم السياسية والحقوقية، عربياً، قد تراجع عما كان عليه في الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لو أخذنا أي بيان من تلك المرحلة لأي حزب، يمينياً أو يسارياً، وأي بيان للأحزاب المزدهرة هذه الأيام، خصوصاً بيانات الحركات الإسلاموية، إخوانية كانت أو غير إخوانية، لوجدنا أن الثاني مجرد إنشاء ماضوي يعبر عن إنسان أو جماعة ما زالت تعيش في عصور انقضت وأصبحت في غياهب التاريخ، مكانها في المعاهد والجامعات المهتمة بتلك الحقبات، فيما نظريات الأحزاب كانت نتاج تفكير بالقديم والراهن، ونتاج ثقافة قائمة على التفاعل مع الأفكار الثورية العالمية، من قومية وماركسية وليبيرالية، أنتجت شعراً ومسرحاً وتشكيلاً ورواية ونظريات ومفاهيم، بعضها في مستوى العالمية، بالمعنى الإبداعي للكلمة. ولا حاجة لتعداد أسماء المبدعين في تلك المرحلة فما زالوا حاضرين حتى اليوم.
تكثر في بيانات الحركات الإسلامية كلمات الحية والقرود والشيطان والسيوف والغزوات والأسود وما إلى ذلك من تعابير مستعارة من سير الزير وعلي الزيبق وعنترة والحكايات الشعبية الأخرى للتعبير عن الحقد والكره والبطولة والحروب والحب. وعندما تحاول هذه اللغة الارتقاء تترك الحكايات الشعبية وتعود إلى الفتاوى بتعبيراتها الأساسية التي لا تقول الكثير في السياسة وتعقيداتها المعاصرة، بقدر ما تكرس مقدسات لم تكن مقدسات في القديم وهي ليست كذلك الآن. تأويلات رجال الدين ليست سوى اجتهادات شخصية.
«الثوار» الذين أطلقوا «الربيع العربي»، أو سرقوه على ما يقول «الليبيراليون»، ويوافقهم جون كيري، مدججون بهذه اللغة والمفاهيم. يهتدون بها في علاقاتهم مع بعضهم ومع الآخرين الذين يخالفونهم الرأي والتوجه، ويحاولون فرضها ثقافة عامة، من لا يدين بها يعتبر كافراً أو مرتداً وتقام عليه الحدود.
أما لغة المثقفين المعاصرين الذين يروجون هذه «الثورات» فلا يهتمون كثيراً بما تفرزه من تخلف اجتماعي يصاحبه تخلف في الطروحات السياسية ومفاهيم الحرية والعدالة، ويكتفون بالقول إنها مرحلة وتعبر وسيحل الأمن وتنشر العدالة. ويرون في الثورة الفرنسية خير مثال، فقد استغرقت أكثر من قرن حتى ترسخت مفاهيمها وتحولت طروحاتها إلى مؤسسات ترعى الحرية والعدالة والمساواة، متناسين أن تلك الثورة رافقتها لغة جديدة وأدب جديد في مواجهة اللغة القديمة التي كانت تشكل ترسانة العقول المتخلفة وتدافع عن الاستبداد، وتحصر الحرية في طبقة معينة. ويتناسون أيضاً فلسفة الأنوار التي رافقتها أو سبقتها أو تلتها، فضلاً عن الأدب العظيم الذي مهّد لها ورافقها وتلاها.
وأكثر ما يلفت النظر في هذه المقارنة أن يساريين سابقين يستخدمون مصطلحات ومفاهيم ماركسية لتبرير فعلتهم أو مهزلتهم. ولا يتوانون عن الاستشهاد بهيغل ومدرسة فرانكفورت، في مؤشر فاضح إلى الانفصام الذي تعانيه مجتمعاتنا. انفصام بين قديم ما زال واضحاً في سلوك جماعات تستعير أحدث التقنيات لترويج لغة القتل والذبح والنحر والتضحية.
اللغة سلطة. كلما تعالت كلما اشتد استبدادها.
الحياة