صفحات المستقبل

في انتظار غودو السوري

لما الخضراء

في ساحة كبيرة موحشة فارغة – إلا من الموت الفائض حتى عن قدرة المقابر على شرب الجثث , وعن قدرة البشر على تجرُّع مزيد من الدم بدل قهوة الصباح , وابتلاع القهر جافاً مع عروسة الزعتر-  تتمدَّد ” أفقياً لا عمودياً ” ساعة رملية ثابتة تماما, تتسمَّر العيون على حبَّات رملها الساكن , بانتظار أن ينهار “الزمن المحلِّي” المتوقِّف في سوريا, ويطلُّ “غائب” ينتظره الجميع … ولا يأتي..

لكن الانتظار الممض – الذي رفع خشبة مسرح صموئيل بيكت ” في انتظار غودو” على أطلال الحرب العالمية الثانية , تاركاً عند عتبة الخارجين من أهوالها أحياء , سؤالا يحارون في جوابه عن غدهم – لا يبدو مشابهاً لمعنى الانتظار الملح ومستعجل الجواب فوق جرح المسرح السوري الملتهب .. ففي غمرة الموت العاجل تغيَّر معنى “الانتظار” في سوريا , ليصير خشبة وحيدة للخلاص , تجول في أرجائها , أنفاس لا تتردَّد في الصدور ” لولا فسحة الأمل “.

وللغارقين في دوامة الموت , لاح غودو سراباً – غير مرة وتجلَّى بأكثر من هيئة , فتعلَّقوا به-  في صحراء عزلتهم , قادماً من وراء خطوط حمراء تركية وأمريكية .. وتنفَّس المثقلون بهاجس طلَّته , حين تراءى لهم , وقد ظهر مُخلِّصا – بعد ولادة تعسَّرت – في مهد وليد سمُّوه المجلس الوطني , مثلما خالوه من قبل مسرعاً في الطريق إليهم , راكباً عربة تجميد عضوية سورية في الجامعة العربية , أو محلِّقا على جناح طائرة أطلسية , ترمي فوقهم حظراً جوياً يظلِّلهم من غطاء القصف ..

ولما اختنق الوليد وقد ثارت حول مهده زوابع صراع أممي على تقاسم أعضائه , وتكسَّرت العربة العربية لدى أول اصطدام بجدار الصد الروسي الصيني في مجلس الأمن , وسقطت الطائرة بسبب أعطال في المحرك الدولي فوق رؤوس الحالمين , ما تاب السوريون عن إدمانهم الإجباري للانتظار ..

وفي غمرة الموت المعجَّل , صارت ظلال غودو تطلُّ برؤوس أشباح تعدَّدت , في أحدها تَقنَّع المُنتَظَر, وقد اختفت ملامحه وراء مشروع إمارة وخلافة من وراء حجاب , بينما رمى الأشقاء للمرابطين “على وعد غودو” بحبال الائتلاف ” قبل وبعد التعديل ” , وتمسَّك المنتظرون له , بخيطان أمريكية أوروبية قطعت أصابعهم بوعود تصلهم دائما بدعم وسلاح , لايأتي ..

وحده الموت ظلَّ لا يُخيب الظنَّ في سوريا , وحده ظلَّ دائما يأتي .. من دون انتظار .

ففي خروج سافر على النص الأصلي لبيكت – حيث الأحداث يحكمها سكون الفعل – بقيت حبكة الدراما تسخن على مسرح سوريا – التي خرجت ثورتها عن سياق نص الربيع العربي- بعد أن نسفت قذائف الأسد تقاليد الحدث في إزاحة الطغاة , وعلّقت تطور الحبكة في رمال متحركة أغرقت الجميع في لحظة الذروة المبهمة , في نص صار البطل يكتب فيه عن فاجعته .. فلا يجد من يكاتبه !!..

ومن وجع فاض على رسالة طارت نحو عنوان مبهم ” إلى المثقفين في الغرب ” صرخ ياسين الحاج صالح : ( إننا شركاء لنحو مليون من البشر في انفلات مصيرنا بالكامل من بين أيدينا، وانفتاح هاوية الاحتمالات الأسوأ… في كلِّ مرَّة أبلغ فيها عتبة المسكن عائداً من الخارج أشعر بالنجاة من الموت بقذيفة أو شظية, لكن يبقى وارداً أن يأتي الموت من النافذة أو الباب)

وفي تلك ” اللحظات التي تسبق موتنا جميعاً ” علَّقت رزان زيتونة فوق عيوننا ورقة نعوة خالية من اسم الضحية ومليئة بكل تفاصيل موتها : (بدلا من النواح على من مضى، من بكائه كما يستحق.. بدلا من الحداد ودقيقة الصمت والذهول.. نجد أننا غرقنا في التفكير حول من سيسقط تالياً، أين وكيف ومتى. بعد ساعة؟ قبل الغذاء؟ أثناء شرب القهوة؟ أو أثناء اجتماع يعرض كم أننا صبورون وشجعان ومستمرون حتى سقوط آخر جفن، وكم أن العالم منافق وقبيح وهو يلملم ما يتساقط منا لدفنه ودفننا.)

وتحت حمل “الثقل الذي لا يحتمل ” يصير الانتظار أكثر رعباً في النص السوري, حين يكتشف الأبطال والمتفرجون معا – في ذروة الحدث –  أن من لوَّح طويلاً بغودو , هو ذاته القابض على خناقه يمنع عنه الطريق إلى سوريا.

وبخلاف الزمن المثبَّت بلا حراك في الحلبة السورية للعبة المصارعة الدولية , يتحرَّك الموت وحده سريعاً كالثواني في دورة بلا توقف , فيأخذ –  بقدرته على التكرار بلا نهاية – من الزمن أحد وجوهه وصفاته ومعانيه ..

ومنذ مطلع القتل في حكاية ربيع ما أزهر , يتجرَّع السوريون – من كأس ميلان كونديرا للعيش الثقيل – فكرة الرجوع الأبدي للموت , ويتابعون العيش بين صباح القنابل , وظهيرة الصواريخ , ومساء القذائف , لتلفُّهم سحب الكيماوي نحو نوم متقطع .

ووسط الخوف من الموت القادم باصرار, يضيف توتر وقلق الانتظار مُبِّررا لارتباك الفعل لدينا كمتفرجين , ونحن نتابع “حدثاً جارياً , يطيح بأبطالنا وسط الزمن الساكن , حين يصير قتلهم مجرد قتل للوقت , ومعه قتل لحلمنا , بغودو قادماً إلينا من عالم الحرية.

هكذا كنَّا نقف .. وقد أدمنَّا الموت حتى صرنا بانتظاره , نحصي أيامنا بعدَّاد الجثث , وساعاتنا بجولات القصف .. ثم تأقلمنا مع تكراره , حتى توقفنا عن العد , وتمددنا – بلا آه للوجع – مثل ساعتنا الرملية , هامدين .. ولا حرج علينا في ” خفتنا التي لا تحتمل ” طالما أن أيدينا مغموسة – وإن على وجع – في ماء الغربة المثلَّجة , بانتظار المجهول الكبير , ذاك الذي يرصّ أصابع أهلنا داخل الدار في النار.

بقينا أحياء …. بعيداً عن ساحة الموت , نقف ساكنين – مثل الزمن- نحمل خفَّة لا تحتمل , في انتظار غودو ! بينما بقي أهلنا هناك في سوريا , في ساحات – كانت حتى الأمس القريب مُعدَّة لموتنا – وحدهم يحملون الثقل … ثقل الموت , وثقل الجثث.. ثقل الفقد والحنين وثقل الخوف , وفوق كل هذا .. ثقل البحث عن غودو .. بدل انتظاره ..

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى