في تزايد الطائفية والعشائرية والأصولية…/ يحيى بن الوليد
قبل ثماني سنوات، وعلى وجه التحديد في الثالث من شهر مايو من عام 2010، فارق الحياة المفكر المغربي الأبرز والأشهر محمد عابد الجابري، بعد أن خلف منجزا فكريّا ثريّا ومحكما جعل منه ــ ومن وجهة نظر أشرس خصم (معرفي) له في الثقافة العربية وهو الراحل جورج طرابيشي ــ الشخصية الفكرية الأكثر إثارة للجدل بعد العملاق طه حسين خلال القرن العشرين. وفي هذا الصدد نألف عشرات الكتب ومئات الأبحاث والدراسات التي أنجزت حول مشروعه الفكري ومن وجهات نظر مختلفة وبمرجعيات تبلغ حدّ “صراع التأويلات”. ومن جهتنا نشرنا حول المشروع أبحاثا كثيرة من منظور ما نعتناه بـ”التراث… الفكر والقيمة” تبعا لعنوان كتاب لنا صدر بالمغرب عام 2016 وضمّ الأبحاث نفسها. ولذلك فإن ما يهمّنا، في هذا المقال، هو أن نسأل حول ما تبقّى في مشروع “نقد العقل العربي” في ظلّ العديد من المتغيّرات التي مسّت العرب ذاتًا… وأفقا للفكر والتفكير.
غير أنّه من المفيد التأكيد على اشتغال محمد عابد الجابري على أكثر من إشكالية (والمصطلح أثير لديه) من الإشكاليات التي تمسّ الفكر العربي في بنياته الأساسية وأنساقه الكبرى ووعيّا منه بتوزّع “النقد الإبستيمولوجي” أو “استراتيجيا النقد الإبستيمولوجي” على ثلاثة محاور أو أبعاد، هي (بلغته): محور النقد الإبستيمولوجي لتراثنا، ومحور التأصيل الثقافي للحداثة في فكرنا ووعينا، ومحور نقد الحداثة الأوروبية نفسها والكشف عن مزالقها ونسبية شعاراتها.
والظاهر أن المحور الذي برز فيه محمد عابد الجابري أكثر، وفي الوقت نفسه أنتج فيه ــ وبشكل أرجح أيضا ــ هو مجال قراءة التراث العربي. وتحقّق له ذلك من خلال “منظور قرائي” مغاير للمنظورات القرائية السائدة وقتذاك، وبخاصة المنظور الماركسي وضمنه المنظور الماركسي “التثويري” (كما يخصّه البعض). لقد كشف كتاب الجابري “نحن والتراث” (1980) عن منظور جديد قوامه المعالجة الإبستيمولوجية والمقاربة البنيوية؛ ما جعله يوظف مفاهيم جديدة في الحقل المعرفي (وقتذاك)، مثل مفهوم الإشكالية والخطاب والحقل المعرفي ونظام العلاقات… إلخ. ومن هنا كانت أهمية الكتاب والتفاتة كثيرين إليه؛ لأنّ المنهج البنيوي، ومن خارج دائرة النقد الأدبي و”الترجمي” في معظمه، كان لم يعرف بعد طريقه إلى الثقافة العربية باستثناء كتاب “الاستشراق” (Orientalism) (1978) للأكاديمي الأميركي والمفكر/ الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد الذي صدرت ترجمته العربية ــ التي أنجزها الناقد السوري كمال أبو ديب ــ بعد عام واحد فقط من ظهور كتاب محمد عابد الجابري (أي عام 1981).
غير أن المنظور القرائي الجديد (سالف الذكر) سرعان ما سيرقى إلى “عهد قرائي جديد” على نحو ما سيتأكد من خلال مشروع الجابري غير المسبوق في الفكر العربي المعاصر بـ”ثابته ومتحوّله” و”تياراته الإيديولوجية” و”نزعاته المادية”… ومن مقترب “من التراث إلى الثورة” أو منظور “التراث والتجديد”… أو غير ذلك من المداخل والمرتكزات والمستندات الكبرى للتعاطي مع التراث، وعلى وجه الخصوص في منحاه الفلسفي، حتى نظل في نطاق الدائرة القرائية لمحمد عابد الجابري. والمقصود، من خلال ما سلف، مشروع الجابري المعمّد بـ”نقد العقل العربي” الذي سيظهر في أربعة أجزاء، هي كالتالي: “تكوين العقل العربي” (1984)، و”بنية العقل العربي” (1986)، و”العقل السياسي العربي” (1990)، و”العقل الأخلاقي العربي” (2001). ومن الجلي أن المشروع يجمع بين العقل النظري (الجزءين الأوّل والثاني) والعقل العملي (الجزءين الثالث والرابع).
وكانت خلاصة الجابري المركزية، وليس هناك ما هو أسوأ من التلخيص وحتى كـ”آلية تأويلية”، هي أن العقل العربي تأسّس على نظم معرفية ثلاثة سطّرها الجابري في “تكوين العقل العربي” كالتالي: نظام معرفي لغوي عربي الأصل، ونظام معرفي غنوصي فارسي هرمسي الأصل، ونظام معرفي عقلاني يوناني (ص142). ثم إنّ ترتيب هذه الأنظمة المعرفية يستجيب للترتيب التكويني التاريخي داخل الثقافة العربية، كما فصّل الجابري التحليل في ذلك في كتابه الدسم والثقيل “بنية العقل العربي”. وعلى مستوى الموقف الفكري، وفي إطار تصوّره التحليلي الأقنومي الثلاثي، انحاز الجابري لـ”البرهان” وعلى النحو الذي أفضى به في إطار ما سمّاه بـ”الانتظام العقلاني النقدي في تراثنا” إلى “عقلانية الغرب الإسلامي” التي دعا ــ في مختتم “بنية العقل العربي” ــ إلى تبنّيها وبعد أن جسّدها في نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون.
وفي ما يخص المشروع اللاحق (ولم يمهل العمر الجابري فرصة إتمامه) على مشروع “نقد العقل العربي”، وهو مشروع “قراءة النص القرآني”، وبخاصة على مستوى طرح السؤال حول “التعريف بالقرآن” (والعنوان للجابري)، وعلى النحو الذي واصل فيه الجابري ــ كما يقول بنفسه ــ “استراتيجيا النقد الإبستيمولوجي”… فإن المطروح، وعلى النحو الذي يفيد سياقنا الحاضر، وبما لا يستبعد نوعا من “التحدي لأمر واقع” وبالتالي الحاجة إلى “نوع من المغامرة”، هو الالتفات لما سمّاه الجابري [ودونما تضحية بجوهر الحقيقة الدينية] بـ”الأفكار المتلقاة” (Idées reçues) (Received Ideas). وخطورة هذه الأفكار كامنة في تحوّلها إلى “عوائق معرفية” كما يخلص إلى ذلك. ويحصل ذلك، وفق شرحه، حين “يسلّم بها الناس دون أن يعوا أنهم يسلمون بها بدون فحص ولا نقد. وهكذا صار من الصعب قبول المسّ بها لأنّ “الأفكار المتلقاة” تصوغ عالم المتلقي لها، وذلك إلى درجة أن هذا الأخير يقوم بصورة آلية برد فعل سلبي رافض أمام كل نقد يمسها وكأنه يخاف أن ينهار عالمه ذلك” (ص85). وستكون الأفكار المتلقاة قرينة ما سينعته الجابري، في الجزء الأوّل من “فهم القرآن الكريم”، بـ”سياج (العادة) المجمدة الرؤية” التي لا “تستحث الفكر المتقاعس على العمل لاكتساب رؤية جديدة أكثر استجابة لروح لعصر” (ص6). ومن ثم منشأ “الخطاب الديني” تمييزا له عن الدين، ومن ثم منشأ “نقد الخطاب الديني” لدى المجموعات الدينية التي تؤدلج الدين.
ولعل في الأفكار المنتقاة ما يعيد إلى الأذهان مفهوم “الخطاب” (Discours) الذي هو قرين “الأفكار” التي تتحدّد من خلال ذاتها وليس من خلال الواقع. وتصوّر من هذا النوع لم يكن مطروحا في الفكر العربي. وهو ما خاض فيه الجابري في وقت مبكّر في كتابه “الخطاب العربي المعاصر” (1982)؛ ما جعل الكتاب ليس متداولا فقط وإنما عرضة للنقد كذلك نتيجة سيادة المنهج الجدلي في الثقافة العربية (وقتذاك). وفي الكتاب نفسه يدرس الجابري “الخطاب العربي” (الحديث والمعاصر)، ويشخّص أسباب فشله أو “عيوبه” كما يقول (ص10)، وفي الكتاب كذلك يقدّم نقدا قويا للقومية العربية. وفي نهاية الكتاب يخلص إلى القول: “إن الحاجة تدعو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى تدشين (عصر تدوين) جديد تكون نقطة البداية فيه نقد السلاح… نقد العقل العربي” (ص191)؛ ما جعل الكتاب يعدّ، وبحقّ، مقدّمة ثانية لمشروع “نقد العقل العربي”.
ولمناسبة الذكرى ذاتها، ونحن نعدّد أهم أفكار الجابري التي ارتقت بمنجزه إلى مستوى “المشروع الفكري”، من المفيد التذكير بالمنهج الذي ساهم في تمتين المشروع. ولعل ما يسود في الفكر العربي المعاصر، وسواء في حال التعاطي مع التراث في أنماطه المتنوّعة أو في حال غيره من المواضيع الشائكة الأخرى من خارج قارّة التراث، ومن قراءات/ حالات توليف وترقيع ومن مضامين ترجمة غائمة وملتبسة، هو نتيجة عدم ارتقاء المنهج إلى مصاف الفكر ذاته. فالفهم الحداثي للتراث لا يمكنه أن يتحقق إلا على أساس من “خطاب المنهج” أو “تحديث المنهج”. ولذلك وجدنا الجابري لا يعزل المنهج عن الرؤية (المنهج/ الرؤية) أو “الفكر الحديث” تبعا لعبد الله العروي. يقول هذا الأخير في مصنفه “مفهوم العقل”: “عندما أتكلّم عن المنهج أعني في الواقع منطق الفكر الحديث بعد أن انفصل عن الفكر القديم” (ص12). وثمة مرتكز آخر داعم للسند التكويني والتصوّري في الوقت ذاته للمنهج/ الرؤية لدى الجابري، وهو سند أو “شرط الكتابة” الذي عادة ما لا نوليه أهمية. يقول الجابري في هذا الصدد وفي نص حوار معه:
“عندما أبدأ الكتابة، فأنا أكون كمن يلعب الشطرنج… وأتعامل مع الكتابة بهذا الشكل بهدف عدم ترك أي فجوة يمكن أن تجعلني أخسر.
عندما أكتب وأنتهي… أعتبر الأمر انتهى، وأكون حينها مطمئنا ألا أحد يستطيع الطعن في ما كتبت” (جريدة “الأيام” (المغربية)، العدد 254، 11 ــ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2006).
وعلى مستوى “المتوالية الفكرية”، وفي إطار مشروع محمد عابد الجابري، فالظاهر أن “مركزية التراث” لا تزال ــ وبأكثر من فهم ــ تفرض ذاتها حتى الآن في الفكر العربي، لكن دون أن يكون في نيتنا أن “نجعل من التراث القضية ومن القضية التراث”. ومن ثمّ عبارة “التراث وتحديات العصر” (وهي عنوان إحدى أهم ندوات العرب في موضوع التراث (1984) التي تفقد كل دلالتها إذا ما حاولنا، كما يقول الجابري، ترجمتها إلى لغة أجنبية، كالفرنسية أو الانكليزية أو الألمانية… فهي “لن تثير فيهم تلك (الشجون) الفكرية والعاطفية التي تثيرها فينا”، كما يوجز الجابري في كتابه “المسألة الثقافية” (ص90). فعلاقة العرب بتراثهم تختلف عن علاقة الأوروبيين بتراثهم.
فالتراث هو قراءته ومحاورته… في أفق “تملـّكه” و”استثماره” في حلّ بعض الإشكاليات التي تستأثر بالفكر العربي المعاصر. والنقد يظل في حاجة إلى أن يستند إلى مرتكز فكري يسنده حتى لا يتحوّل إلى مجرد متعة ذهنية مرتبطة بآنية القراءة أو مجرد سياحة فكرية في التراث. ولذلك فالجابري يقرأ التراث بدافع ما يسميه، في “تكوين العقل العربي”، بمطلب “النهضة العربية التي لم تتحقق بعد” (ص347).
وفي هذا السياق، أمكننا أن نهتدي إلى سؤال “ما تبقّى من التراث” الذي يوجِّه قراءة “نحن والتراث” (والمشروع بعامة)؛ وهذا الـ”ما تبقّى” هو ما يمكن توظيفه واستثماره. ومن ثمّ أمكننا، في ذروة الـ”ما تبقّى”، فهم إلحاح الجابري على “القطيعة” مع الفلسفة المشرقية المتمثلة في إنجازات ابن سينا، وفي مقابل ذلك تنصيبه لابن رشد “بطلا” لهذه القطيعة. وحصل ذلك بعد أن استقرّ الجابري على أن “ما تبقى من تراثنا الفلسفي، أي ما يمكن أن يكون فيه قادرا على أن يعيش معنا عصرنا، لا يمكن أن يكون إلا رشديا”، وأن خطاب ابن رشد هو خطاب “العقلانية النقدية الواقعية”؛ وأنّ ما تبقى من “الرشدية”، والقابل لأن يوظف في مشاغلنا الراهنة، هو “الروح الرشدية” (“نحن والتراث”، ص52).
وفي سياق “الروح الرشدية”، يقول الجابري كلاما دقيقا وهو كالتالي: “ومن يقرأ ابن رشد لا يمكن أن يكون متطرّفا أو متعصّبا”. وكان المرحوم محمد عابد الجابري قد قال هذا الكلام قبل عشرين سنة، وعلى وجه التحديد في حوار معه بمجلة “الوطن العربي” (العدد 1136، الجمعة 11/12/1998). غير أن ما أخذ في التزايد والاكتساح، وسواء قبل هذا التاريخ أو بعده، شيء مغاير (وجارف). ومن ثمّ لم تعد المسألة مسألة عودة “مكبوت ديني” من طائفية وعشائرية وتطرّف ديني… وهو ما يشير إليه الجابري نفسه في كتابه “إشكاليات الفكر العربي المعاصر” (ص 132 ـــ 133)؛ وإنما مسألة خطاب متصلّب وقائم بذاته، ما يجعل المجتمع مجالا لأنساقه الكبرى والفرعية والمفترسة في الحالين معا.
إن ما يمكن نعته، من جهتنا، بـ”التراتبية المتحرّكة” وعلى نحو ما يتيحها لنا مشروع الجابري ذاته هو ما يجعلنا نشدّد على فكرة الجابري هاته وذات الصلة بابن خلدون هذه المرّة، لكن من خارج المنظور القرائي الذي لوّى بالعديد من القراءات التراثية لابن خلدون في السبعينيات من القرن المنصرم. وهو ما ينطبق، وإن من وجوه، على الجابري نفسه في كتابه الأوّل “العصبية والدولة” (1971) الذي افتتح به مشروع قراءته للتراث والذي كرّسه لابن خلدون أو لـ”المعالم النظرية الخلدونية في التاريخ الإسلامي” كما جاء في العنوان الفرعي.
وكتاب الجابري الأخير، ورغم خطّته أو احترازه الفكري من النظرة المسبقة ومع ما يلازمها من تعسف في التأويل والاستنتاج، كان محكوما بمرحلته المغايرة لمرحلتنا التي تفرض عودة من نوع آخر لابن خلدون. عودة تفرضها أشكال من “الانفجار الثقافي” الذي راح العالم العربي مجالا له وعلى نحو ما أخذ يتمظهر في التعامل مع “ألغام” مثل الهوية والذاكرة والأمة… إلخ. وهي الفكرة التي يؤكّـدها الجابري بدوره في كتابه “العقل السياسي العربي”، وذلك حين يقول: “إن العودة إلى ابن خلدون يبررها، أولا، وقبل كل شيء الواقع الاجتماعي السياسي للراهن، القائم في الوطن العربي وفي بلدان أخرى، والذي يجعل من الحديث اليوم عن العشائرية والطائفية والأصولية الدينية حديثا مباحا بل مطلوبا، حديثا غير (رجعي) ولا مستنكر، كما كان الشأن قبل عقدين من السنين فقط” (ص46).
في ذكرى رحيل محمد عابد الجابري، الثامنة، حيث تتزايد الطائفية والعشائرية والمذهبية والقبلية والمذهبية والأصولية والإثنية والجهوية، وحيث تتزايد البلقنة والبعثرة والتمزيق والتجريف والتفتيت، يتزايد الإلحاح على المطلب المقارباتي للأنثروبولوجيا التاريخية والثقافية لتفكيك خطاطات العالم العربي التي تتهدّد البقية الباقية في “بنيان الثقافة” ودونما تفريط أو تنكّر لمشروع الرجل. وكما يتزايد مطلب أداء المثقف البارع الذي اضطلع به الجابري من داخل مختبر المفكر الذي يحلّل من بعيد لكن على النحو الذي يجعله أكثر تأكيدا على الفكر في تشابكه مع إشكالات الواقع. وذلك أيضا بمنأى عن ما سبق أن أعاد تسميته الجابري في ندوة “التراث وتحديات العصر في الوطن العربي” (وقد آلت إلى مصنف ضخم) بـ”الترحال الثقافي” في الساحة الفكرية العربية: من موقع إلى موقع، من يسار إلى يمين، من يمين إلى يسار، من خلف إلى قدام ومن قدام إلى خلف…” (ص83). وربما حتى هذا الترحال آخذ في الغياب في ظلّ التصدّع البنيوي الذي أصاب مفهوم المفكر والمثقف في آن واحد.
ضفة ثالثة