في ثقافة “طرش الدم”/ ميسون شقير
يقول الفيلسوف بسوت (Bossuet) “حيث يملك الكل فعل ما يشاءون، لا يملك أحد فعل ما يشاء، وحيث لا سيد، فالكل سيد، وحيث الكل سيد فالكل عبيد”. لذا، كان لابد للمجتمع البشري من نظام يحكم كل أشكال العلاقات بين الناس، ويمتلك سلطة عادلة نزيهة، يفرض من خلالها الأمان في المجتمع. ومن الحاجة لهذا النظام، ولد مفهوم ما يسمى القانون الذي تطور وتنامى إلى درجة أنه، منذ أواخر القرون الوسطى، تجاوزت المجتمعات البشرية كلها مرحلة القوانين اللاهوتية، والميتافيزيقية، واعتماد القوانين الوضعية. والقوانين المبنية على حكم اجتماعي ديني أو اجتماعي، قبلي، عشائري.
واذا ما عرفنا القانون بأنه “مجموعة قواعد عامة مجرّدة ملزمة تنظم العلاقات بين الأشخاص في المجتمع”، فإن القاعدة القانونية يجب أن تكون قاعدة عامة ومجرّدة، والأهم أنها يجب أن تكون ملزمة. وبالتالي، فإن مفهومي كل من السلطة والقانون هما أهم مقومات الدولة، وطبيعة العلاقة بينهما هي المقياس الذي يبيّن مدى اقتراب الدولة من مفاهيم الديمقراطية الحقيقية. وقد أشاع مفكرون كثيرون، في القرون الوسطى، منهم الإيطالي ميكيافلي (1469-1527) والفرنسي جان بودان (1530-1596)، فكرة دمج السلطة بالدولة، ما يعني إرادة الحاكم المطلقة في تشريع ما يشاء من القوانين، وقد أسست هذه الفكرة لمرحلة الهيغلية، ثم النازية،
“وثيقة “طرش الدم في السويداء” اغتيال جديد للقوانين الإنسانية ولحقوقها” وقد استبدل ماركس سلطة الحاكم المطلقة بسلطة البروليتاريا المطلقة وسيطرة الحزب الواحد، ما أنتج أنظمة شمولية، ديكتاتورية، قتلت في شعوبها روح التجدّد وإمكانية الديمقراطية.
نظام البعث في سورية من أوضح الأمثلة على سيادة الحزب الواحد، وتكريس شخصية القائد الذي يمثل القائد الأول للحزب والجيش والدولة، ما جعل محاولة التخلص منه محاولة انتحار جماعي، بسبب الهرم الذي بناه من الأجهزة الأمنية التابعة له، والفساد العام الذي سعى إلى تعويمه، وبسبب وجود الجيش العقائدي التابع له، وهذا جعله يدمّر أغلب مدنه التي ثارت عليه، والتي تحول الحراك فيها إلى حراك عسكري، وجعله يشعل نار الطائفية والفتنة، ويهجّر نصف شعبه، ويقتل مليونا منه، ويعتقل أفضل خبراته، وطاقاته.
أما في المدن التي لم تتحوّل الثورة فيها إلى صراع مسلح، ولم يتم إدخال العناصر الإسلامية المتطرفة إليها، مثل مدينة السويداء في الجنوب السوري، فقد عمد النظام إلى القضاء على بيئتها الاجتماعية، من خلال البطش العنيف بالنخب التي مثلت الحراك في سنواته الأولى، ثم بإطلاق يد العناصر الفاشلة وعديمة الأخلاق، عن طريق تنظيم كل هؤلاء فيما تسمى “اللجان الشعبية” و”الشبيحة”، كما تغاضى النظام عن كل التجاوزات الأمنية والأخلاقية التي يقوم بها هؤلاء المأجورون الذين تحولوا إلى سرّاقين وقطاع طرق، والذين ساهموا، وبطريقة مدروسة من النظام، بإحداث جوٍّ من الفوضى، ومن الرعب، ومن الحنق الذي لم يعد قابلا للاحتمال.
وبعد حادثة اغتيال “زعران”، موظفين في فرع الأمن العسكري في السويداء في الصيف الماضي، الشاب الطالب الجامعي الخلوق الذي ينتمي لعائلة أبي فخر، في الصيف الماضي، وبعد الغضب الذي ساد بين الناس، بسبب عدم محاكمة المجرمين، والذي جعل الحشود تتجه حينها إلى مبنى المحافظة، مطالبة بإعدام القتلة، وبعد المظاهرات التي عادت وتجدّدت في
“يسعى النظام الآن إلى إنهاء مفهوم دولة القانون” المحافظة منذ ثلاثة أشهر، بزخم ونوعية أكبر، يسعى النظام الآن إلى إنهاء مفهوم دولة القانون، وإلى تعويم حالة من العودة إلى مرحلة القرون الوسطى التي سبقت مرحلة القانون الأولى، وإلى التشجيع المبطن على تبني قانون قبلي بدوي كان سائداً في المنطقة منذ ما يزيد عن أربعمائة سنة، وهو ما يعرف بقانون “طرش الدم” الذي يعني توزيع دم المغدور ودم المعاقب بالإعدام على العائلات كافة، أي “طرشه بين الجميع”، وهو وثيقة عشائرية كانت تستخدم لمحاسبة المتورطين بعمليات الخطف والقتل.
تم قبل أسبوع تعميم هذه الوثيقة على كل عائلات المحافظة. لكن في الظاهر يبدو أن الوجهاء الذين يشيعون هذا القانون الآن يتمسّكون به، لأن الدولة لا تقوم بواجبها بحماية المواطنين، وبأنه رد شعبي عادل على إهمال الدولة، لكن الحقيقة هي سماح النظام بانتشار هذه الوثيقة، ودعمها المخفي لإحداث سابقة خطيرة لمحاكمات غير قضائية، سوف تفتح الباب لزيادة توغل الأجهزة الأمنية في البلد، ولزيادة حالة الفوضى، والحقد بين الأشخاص، وبين العائلات، ما سيهيئ مناخاً خصباً لعودة مفهوم الثأر الفردي، وللتفريط بكل ما بناه المجتمع البشري من وعي، ومعرفة، وتجارب، للوصول إلى مرحلة سيادة القانون التي تضمن، وحدها، استقرار المجتمعات، وتحميها من الانهيار، والتي وحدها تقود الى حالة العدالة القضائية.
وثيقة “طرش الدم في السويداء” اغتيال جديد للقوانين الإنسانية ولحقوقها، يقوم به أناس عاطفيون مظلمون، ومغفلون، ترفضه النخب الفكرية في المخافظة، ويشجّعه نظام “طرش” دم السوريين على كل خارطة العالم.
العربي الجديد