في حوار مع غياث نعيسة: أزمة الثورة السورية إلى أين؟
حوار: دينا عمر
يمر أكثر من عام منذ أن كتب تلاميذ إحدى مدارس درعا “الشعب يريد إسقاط النظام”، حتى سقط على الجانب المقابل آلاف الشهداء وقبع آلاف آخرون داخل المعتقلات يعانون التعذيب الشديد، وتحولت الشوارع إلى ساحة حرب مفتوحة تتصدرها فوهات الدبابات وتعلوها رصاص القناصة.
في الذكرى الأولى لاندلاع الثورة السورية، يرى البعض أن الجماهير قادرة على خوض معركة ضارية ضد نظام فاشي، والبعض الآخر ممن يؤيدون المعسكر الشرقي يباركون الحوار بين السلطة والمعارضة في ظل انسداد الأفق، كما وجد آخرون ممن يؤيدون المعسكر الغربي أهمية التدخل العسكري الأجنبي لإنقاذ شعب يعاني الحصار والتجويع.
كيف سيكون حل الأزمة السورية؟ وما مستقبل الثورة بالمنطقة؟ للإجابة على مثل هذه الأسئلة ولمعرفة المزيد كان لنا هذا الحوار مع المناضل السوري غياث نعيسة.
في أواخر شهر فبراير طرح النظام السوري تعديلات دستورية كان أهمها إلغاء المادة الثامنة من الدستور الخاصة باحتكار حزب البعث للسلطة كما تم طرح مرسوم يقضي بتعجيل انتخابات مجلس الشعب في مايو المقبل، وفي كلتا الحالتين دعت المعارضة إلى المقاطعة ورفض الحوار، كيف ترى الإصلاحات بالنسبة للأزمة؟
ما يفعله النظام السوري باسم “الإصلاحات” ليس إلا استهتار وازدراء بمطالب الجماهير الثائرة منذ أكثر من عام، والذي عوضاً عن أن يستجيب على مطالبها بالحرية والكرامة بإجراءات فورية تستجيب لها لم يفعل سوى إطلاق النار الحي على المتظاهرين العزل والقتل والاغتيال والاعتقال ودمار المدن. مما نقل مطالب الجماهير، التي لن تتنازل عنها، إلى المطالبة بإسقاط النظام برمته. كما أن الدستور الجديد الذي أقرته الطغمة الحاكمة إنما هو وثيقة أعدتها لجنة ضيقة لصيقة بالنظام وصدرت باستفتاء حصل خلال اقتحام الجيش السوري للمدن السورية الثائرة مثل حمص وحماة ودير الزور وريف دمشق، ولا يستجيب للحد الأدنى من مطالب الثورة؛ فالمادة الثامنة من الدستور السابق التي تنص على قيادة حزب البعث الحاكم “للمجتمع والدولة” إنما سقطت عملياً منذ اليوم الأول للثورة، والحاكم الفعلي في سوريا ليس حزب البعث بل هو طغمة تشمل آل الأسد وقيادة الجيش والأجهزة الأمنية.
لم ينجح النظام في خداع الجماهير بخزعبلات “إصلاحاته” التي اختبرتها الجماهير منذ سنوات طويلة وكشفت زيفها وخوائها، فقد أعلن النظام إلغاء قانون حالة الطوارئ في بداية العام الماضي ليستبدله بقانون مكافحة الإرهاب الذي لم يكن إلا أسوأ من قانون الطوارئ نفسه. مثلما أعلن أيضاً قانوناً “يسمح بالتظاهر” بينما ما يفعله هو سحق حتى أبسط أشكال التظاهر السلمي وليصل عدد الشهداء من المتظاهرين السلميين إلى اكثر من عشرة آلاف واكثر من 35 الف جريح .انه نظام عصي على الإصلاح، وأدنى إصلاح يتطلب إسقاطه أولاً.
نرى أن جمعية تأسيسية تقوم على أساس التمثيل النسبي وبانتخاب حر ونزيه هي التي يمكن أن تقدم على تعديلات دستورية في سياق سيرورة ثورية.
لكن البعض اتهم الاحتجاجات السورية بالمؤامرة الخارجية التي تستهدف نظام الممانعة وهو طالما كان حلقة الربط بين إيران من جهة وبين حزب الله وحماس من جهة أخرى، بل ويستشهدون بالعزلة السياسية والاقتصادية ضد النظام السوري التي تزامنت مع تصعيد التهديدات الإسرائيلية ضد إيران وتوجيه ضربة جوية بالفعل ضد قطاع غزة أوقعت قتلى وجرحى. كيف تقرأ تلك الادعاءات ؟
الادعاء بأن ما يحدث في سوريا، وهي بالنسبة لنا ثورة شعبية حقيقية، إنما هو مؤامرة ضد نظام “ممانع” هو إهانة لتضحيات الشعب الثائر في سوريا المطالب بالحرية والكرامة والعدالة في مواجهة آلة القتل والدمار لنظام مستبد ودموي لا يتردد في شن حرب وحشية ضد شعبه، وقول النظام بالمؤامرة يشبه قوله أنه يواجه عصابات مسلحة إنما هما الذريعتان اللتين يحاول أن يبرر بهما النظام الدموي جرائمه الشنيعة بحق المتظاهرين السلميين.
وهذا الادعاء يجافي تماماً كل الوقائع التاريخية لمواقف النظام من القضية الوطنية أو الإقليمية مثل مواقفه تجاه القضية الفلسطينية أو لبنان والعراق. إن قراءة موضوعية لدوافع سياساته في هذه المجالات تثبت أنها إنما تنبع من الدفاع عن مصالحه الذاتية والخاصة كنظام حكم دكتاتوري وكطبقة برجوازية مالكة وحاكمة، وفي القلب من دوافعه هو حرصه على تعزيز وتوفير كل عوامل القوة التي تسمح له بالاستمرار في الحكم وبقائه في السلطة التي يحتكرها منذ أكثر من أربعين عاماً. فالنظام السوري يتحكم في بلد لا يمتلك موارد طبيعية كبيرة كالنفط ولكنه يحوز على ميزة أساسية هي موقعه الجيو-استراتيجي في المنطقة. وكل مواقفه وممارساته إنما تستجيب لهوسه بالسعي لتعزيز موقعه الإقليمي خدمةً لمصالحه ومصالح بقائه، ولا علاقة لها بالدعاية الإعلامية والأيديولوجية لأجهزة حكمه التي تبث الأكاذيب عن كونه “قلب العروبة النابض” و”المدافع الأول عن القضية الفلسطينية والمصالح القومية للأمة العربية”، ليس النظام الحاكم من يحمي المقاومة أنه الشعب السوري.
نذكر بعض الشواهد: موقف الأسد الأب بسحب الجيش السوري من الأردن عام 1970 ليترك المقاومة الفلسطينية وحيدة في مواجهة الجيش الأردني وما حصل من مجازر بحق الشعب الفلسطيني والمقاومة فيما سمي بمجازر أيلول الاسود. والنظام نفسه في ظل الدكتاتور الأب هو من أرسل الجيش السوري في يونية 1976 لسحق الحركة الوطنية اللبنانية بمباركة من الإمبريالية الأمريكية والدول الرجعية العربية. وهو نفس النظام الذي حاصر وسحق المقاومة الفلسطينية في طرابلس في عام 1983، وأليس هو من حرض على حرب المخيمات الفلسطينية في لبنان في منتصف الثمانينات؟ نعم إنه النظام السوري وحلفائه في لبنان. وهو النظام عينه الذي شارك بقواته إلى جانب القوات الإمبريالية في حرب الخليج الأولى ضد العراق. وأخيراً فإن الجبهة السورية في الجولان هي الجبهة الهادئة تماماً منذ احتلال الجولان عام 1967.
أما فيما يخص تحالفه مع إيران، فإن النظام الاستبدادي وقف في صف إيران في حربيها مع نظام صدام حسين (في تناقض شكلي مع أطروحاته القومية؟) ولم يفعل ذلك لأسباب دينية أو أيديولوجية بل لأسباب استراتيجية لأن نظام صدام كان خصماً قوياً لنظام الأسد الأب ويشكل تهديداً له فاختار الوقوف مع إيران الخمينية ضد عراق صدام حسين حماية لنفسه.
أما علاقته مع حزب الله، فلم يأت إلا بعد تفريغه للبنان من قوى فاعلة مناهضة له، وبعد أن تحدد دور حزب الله في لبنان بشكل واضح بمعنى أنه أصبح معنياً بمواجهة إسرائيل مما انعكس في تعزيز نفوذ نظام الأسد الإقليمي، بينما تخلى حزب الله للنظام السوري عن التدخل في إدارة شئون لبنان، في الفترة السابقة على سحب الجيش السوري من لبنان عام 2005 بسبب الضغط الدولي الذي عقب اغتيال رفيق الحريري. في حين شكل تحالفه مع حماس تعويضاً لخسارة نفوذه على قيادة منظمة التحرير التي عادت إلى غزة والضفة بعد مفاوضات أوسلو والتنازلات الشنيعة لقيادة منظمة التحرير. مما سمح له باستعادة الورقة الفلسطينية لتعزيز موقفه الإقليمي الذي يشكل عامل هام من عوامل استمرار وحماية وجوده وبقائه كنظام فحسب.
في ظل الاستنزاف الاقتصادي بفرض العقوبات الدولية وهروب الاستثمار ودخول مناطق من العاصمة الصناعية حلب لبؤر التظاهرات، أيضاً في ظل الاستنزاف السياسي بقطع العلاقات وسحب السفراء واستمرار الانشقاقات عن السلطة، آخرهم نائب وزير النفط، كذلك انشقاقات العسكريين عن الجيش، إلى أي مدى تتوقع صمود النظام بعد عام من الاحتجاجات الشعبية؟ وعلى ماذا يراهن؟
يمكن الإشارة إلى أن ما يميز النظام الدكتاتوري في سوريا عن غيره من الأنظمة العربية التي حصل فيها تغييرات في سياق الثورات الراهنة مثل مصر وتونس واليمن هو أن الطغمة الحاكمة (آل الأسد) بنت المؤسسة العسكرية القوية حول أشخاصها وأحكمت آليات ضمان ولاء قادتها وخلقت شبكة واسعة من الأجهزة الأمنية المستقلة كلٍ عن الأخرى. وهو نظام يتوفر له كلا من ولاء ودعم القسم الأكبر من البرجوازية الكبرى، وهي المتمركزة أساساً في مدينتي دمشق وحلب، وأيضاً ولاء المؤسسات الدينية الرسمية لكل الأديان والمذاهب.
من جهة أخرى يتميز النظام الدكتاتوري السوري بامتلاكه لحلفاء إقليميين أقوياء، كإيران وحزب الله وحلفاء دوليين كروسيا والصين، وحلفائه لم يتخلوا عنه -بعد- بخلاف مع ما حصل مع أنظمة الحكم العربية في البلدان المذكورة أعلاه، بل يقدمون له الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري.
و مما لا شك فيه أن المعارضة السياسية السورية المعروفة إعلامياً (وخاصة المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطني للتغيير الديمقراطي) لم تكن على مستوى تضحيات الجماهير الثائرة والتحديات التي تطرحها الثورة في مواجهة واحد من أعتى الأنظمة الدكتاتورية المعروفة، بل يمكن القول أن هذه المعارضة تشكل عبئاً وعائقاً على السيرورة الثورية للجماهير الشعبية وأصبح مطروحاً وبإلحاح ضرورة تشكيل قيادة جماهيرية ثورية بديلة. لا سيما أن النظام الحاكم يستخدم كل أنواع الأسلحة الحربية وبوحشية منقطعة النظير وغير معهودة في محاولته لسحق نضالات الجماهير الثورية.
رغم بعض عوامل قوة النظام المذكورة أعلاه، إلا أن الوضع الاقتصادي يعيش تدهوراً حاداً، انخفاض قيمة الليرة السورية إلى أكثر من النصف وارتفاع فلكي لأسعار المواد المعيشية وافتقار السوق إلى عدد من الأساسيات فيها مثل المازوت والغاز مع انقطاعات طويلة للكهرباء وحصول عمليات تسريح واسعة للعمال في محاولة من الطغمة لسحق قدرتهم الكفاحية كطبقة أساسية في الكفاح الثوري، حيث شهد عام 2011 تسريح أكثر من مئة ألف عامل وفق الاحصائيات الرسمية. ولن يطول الوقت قبل أن تنزل الطبقة العاملة وشرائح واسعة أكثر من الكادحين إلى ساحة الفعل الثوري من أجل إسقاط النظام والسير قدماً نحو تغييرات اجتماعية عميقة، إضافة إلى التغييرات السياسية الديمقراطية المطلوبة.
وهل يمكن اعتبار النموذج اليمني في انتقال السلطة سلمياً هو أكثر الحلول طرحاً، وخاصة مع تصريحات المرزوقي رئيس الحكومة التونسية بمؤتمر أصدقاء سوريا عن إمكانية استقبال أراضيه للأسد كحل للأزمة مع ضمان عدم مسائلته جنائيا، وأيضاً في ظل وجود هيئة التنسيق الوطنية المعارضة التي ترى أهمية وجود وسيط حتى لا تقع البلاد في فوضى بعد الرحيل المفاجىء؟
بعض من دعا إلى حل “يمني” كان ينطلق من مبدأ بقاء النظام والحوار معه وتعديله شكلياً. ولكني لا أعتقد، كما أوضحت الوقائع، أن لهذا الحل أي إمكانية فعلية للتحقيق، فتكوين الطغمة الحاكمة وطبيعة السلطة السياسية السورية تجعل منها كياناً عصيّ على الإصلاح ويلتف حول نواة صلبة هي عائلة الأسد، التي تمسك بولاء الجيش والأمن وبعلاقات مصالح متبادلة وعضوية مع البرجوازية السورية. وترى هذه الطغمة أن التفريط برأسها، أي رحيل بشار الأسد، يعني بالنسبة لها تفككها كسلطة، وهذا ما يفسر إلى حد ما ميل النظام، بل نزوعه الداخلي في حالة الخطر، إلى دفع الامور عبر وحشيته الفظيعة نحو اتون الحرب الأهلية وربما الطائفية أيضاً، بمعنى أنه يطرح دوما المعادلة التالية: إما بقائي أو الخراب، وهذا ما يكتبه جنوده وميليشياته في كل مكان: الأسد للأبد أو خراب البلد.
وكيف ترى حل الأزمة بعد بإنتهاء أغلب المبادرات السياسية واستحالة الحوار بين سلطة تصف الشعب بالعصابات المسلحة ومعارضة رفضت المساواة بين الضحية والجلاد، في المقابل لا توجد خطوات جدية لتسليح الجيش الحر رغم رفض بعض الأطياف للتدخل العسكري الأجنبي والذي قوبل هو الآخر بالفيتو الصيني والروسي مرتان؟
ظاهرة الجنود المنشقين والمقاومين المسلحين أصبحت، شئنا أم أبينا، مكون من مكونات الثورة السورية، سبق لي أن وصفت المعارضة المذكورة بخلافاتها وانشطاراتها وتنازعها على سلطة لم تحوز عليها بعد وأشرت إلى ارتباط نشاط بعضها بدول إقليمية أو دولية راعية لها، لكن النشاط الاساسي لهذه المعارضة المذكورة يقبع في الخارج، أنه نشاط دبلوماسي واعلامي وتلفزيوني، بينما نجد ان الهيئات الثورية الحقيقية التي تقود الحراك الثوري فعلا هي الفاعلة في الداخل، وليست تلك التي نسمع عنها في الفضائيات والإعلام، إنها تنسيقيات ميدانية ثورية عديدة جداً تنتشر في كل المنشآت والأحياء. في المقابل لاحظنا في الأشهر القليلة الأخيرة نشوء وتطور أشكال جماهيرية ثورية جديدة، ندعو إلى تشجيعها وتنميتها، هي المجالس المحلية. فإن كانت مهمة التنسيقيات هي تنظيم وإدارة النضالات كالمظاهرات والاعتصامات والإضرابات، فإن مهمة المجالس المحلية هي إدارة الشئون اليومية للسكان في المناطق الثائرة، إنهما شكلان رائعان من أشكال التنظيم والإدارة الذاتيين من الأسفل.
لقد دعونا إلى ربط أو دمج هذه الأشكال معاً: التنسيقيات الميدانية والمجالس المحلية والمقاومة الشعبية لتشكيل هيئات سلطة بديلة على الارض فعلا. في حالة تحقق هذا الامر على الصعيد الوطني فان تحقيق المهمات المركبة السياسية والاجتماعية في الثورة السورية سيكون بارزا ويفتح الباب واسعا في السيرورة الثورية امام امكانية بناء سلطة العمال والكادحين. هذا الكمون الملحوظ في الثورة السورية يفسر تكالب قوى الثورة المضادة على محاولة احتوائها أو اجهاضها، ليس فقط من قبل حلفاء النظام بل ومن القوى الاقليمية والدولية المعادية له أيضاً.
الكثيرون يطرحون المقارنة بين النموذج الليبي وتكوينه للمجلس الوطني ببني غازي والتحكم اقتصاديا بموانىء النفط لشراء الأسلحة وتنظيم توزيعها وبين المجلس الوطني السوري الذي شهد تكوين مكتب عسكري منفصل عن القادة الميدانيين كما شهد أيضاً خلافات أسفرت عن انشقاق العديد منهم وهو ما اعتبره البعض توفير غطاء زمني مناسب للنظام لسحق الثورة. في ظل هذه الأحوال كيف ترى قدرة الجيش السوري الحر، الذي فرض نفسه مؤخرا، على الاستمرار في معركته وتأثيره في المشهد؟
لقد جاء سياق إعلان تشكيل المجلس الوطني السوري في 2 اكتوبر 2011 في اسطنبول بتشجيع من قوى اقليمية ودولية هي قطر وتركيا وفرنسا بشكل اخص، باستعادة لسيناريو ليبيا. وقام رهان المجلس منذ البداية على ان تدخل عسكري خارجي هو امر وشيك ان جاء باسم توفير مناطق عازلة أو ممرات امنة أو تدخل مباشر . لكن فشل رهانه اضافة إلى غياب مذهل للديمقراطية في تكوينه وافتقاره إلى استراتيجية واضحة للتغيير في سوريا تستند اولا على قدرات الشعب الثائرالذاتية، اضافة إلى انشغاله في نزاعات داخلية حول تقاسم المناصب والنفوذ، والخشية التي نمت من هيمنة كتلة الاخوان المسلمين داخله ادى إلى تزايد الانشقاقات والاستقالات داخله، وربما يصح القول ان مصدر تماسكه الوحيد حتى الان هو ارادة القوى الراعية له أي قطر وتركيا الراغبتين في التمسك به. لقد فقد المجلس الوطني إلى حد كبير مصداقيته وتأثيره في النضالات داخل سوريا.
أما بالنسبة للجيش السوري الحر فهو اسم عام يطلق على مجموعات متعددة اغلبها تضم جنود منشقين وثوار مسلحين كرد فعل على جرائم النظام، ورغم كل ما اعلن عنه في الاعلام عن تشكيل مكاتب عسكرية مشتركة لها الا انها ما تزال مجموعات مشتتة وبلا تنسيق فيما بينها. لقد طالبنا سابقا بتوحيدها تحت قيادة عسكرية موحدة وواضحة تحدد مهمات الجيش الحر في حماية المدنيين والمظاهرات، كما طابنا بان تكون هذه القيادة الموحدة ملتزمة بالقيادة السياسية للثورة وبأهداف الثورة السورية، وكما سبق ان قلت في جوابي السابق فإننا ندعو إلى دمجها في هيئات كفاحية لسلطة شعبية بديلة تضمهم كمقاومة شعبية إلى جانب التنسيقيات الميدانية والمجالس المحلية وصولا إلى تشكيل هيكلية لها على الصعيد الوطني .
وماذا عن الحراك الجماهيري؟ فالثوار استطاعوا تنظيم إضراباً على ستة مراحل مطلع أكتوبر الماضي إضافة إلى إضرابات عديدة خلال الشهور الماضية لكنها بدت كمساعي تضامنية للأحياء المنكوبة أكثر من كونها تكتيكات ثورية منظمة في ظل رفع النقابات لسقف منخفض جدا يطالب بالإصلاحات لا غير . كيف ترى فرص تنظيم الحراك الجماهيري ومن ثم تطوره؟
القوى الاجتماعية المحركة للثورة السورية هي العمال والكادحين والمفقرين والمهمشين، فالأحياء والمدن التي اندلعت منها الثورة والتي تستمر فيها حتى الان وبلا توقف رغم كل بربرية النظام ووحشيته هي احياء ومدن الطبقات الشعبية، ولأنها هي القوى المحركة للثورة فان جذوة الثورة باقية ملتهبة ومستمرة. فالطبقات الكادحة والمستغلة والمضطهدة ليس لديها ما تخسره في مواجهة نظام الاستبداد والاستغلال والنهب سوى قيودها.
من المفهوم أن يكون موقف القيادات النقابية مائعا وتعيسا لأنها قيادات ملحقة بالنظام الحاكم منذ اكثر من اربعين عاما ،احتكر النظام خلالها كلا من العمل السياسي والنقابي، ومنع وقمع أي نشاط مستقل وخاصة اليساري، حيث اعتقل ودفع إلى المنافي الاف من المناضلين اليساريين. وبالرغم من ذلك فقد شهدت سوريا منذ عام 2006 تزايدا واضحا في النضالات العمالية ،وساهمت الثورة في تكوين وعي سياسي متقدم ونشهد منذ عام تشكل نقابات عمالية ومهنية مستقلة وكفاحية.
غياب عمل سياسي ونقابي مستقل ومعارض لوهلة طويلة اعاق في الاشهر الاولى من الثورة من نقل التجارب والدروس النضالية بين الاجيال، ولكن الجماهير الثورية تعلمت في اشهر ما كان يحتاج تعلمه إلى سنوات بل وعقود من الزمن.
من المعلوم ان الإضراب العام طرح للمرة الاولى في سياق الثورة في شهر اكتوبر من العام الماضي، ولكن بسبب عدم التحضير الجيد له كان تأثيره محدودا، وعند طرحه للمرة الثانية في ديسمبر من العام الفائت كان تأثيره اكبر واوسع، لكنه لم يستطع ان يشمل كافة الساحة الوطنية. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى السياسة الامنية البشعة للسلطة التي قطعت المدن والاحياء والمناطق إلى مناطق صغيرة محاصرة ومعزولة مع عمليات قصف وقنص وقتل واعتقال واسعة. لكن تراكم الخبرات الجماهيرية بتكتيكات الكفاح وخاصة الإضراب العام سيوفر الامكانية للإعادة طرحه مرة اخرى بإعداد وتنظيم مناسبين بشكل يتحول فيه إلى إضراب عام جماهيري يترافق مع عصيان عام كسبيل لشل اجهزة السلطة القمعية على طريق اسقاطها. وكما قلت سابقا يجب دمج المقاومة الشعبية في اطار الإضراب العام الثوري.
ما هي توقعاتك لمستقبل الثورة السورية؟
فاجئت الثورة الشعبية السورية كلا من النظام الحاكم والقوى السياسية المعارضة. فقد صرح رئيس الطغمة قبل اقل شهر من اندلاع الثورة لصحيفة وول ستريت جورنال انه بمنأى عن الثورات التي تجري في مصر وتونس لأنه “قريب من شعبه” معلنا أيضاً أن الإصلاحات التي يعد بها ستتطلب “اجيالا” قبل ان تتحقق. لكن خروج بضعة عشرات من الشبان الشجعان في وسط دمشق للتظاهر مطالبين بالحرية في 15 مارس وما تلاها في 18 مارس من مظاهرات حاشدة في مدينة درعا اذهل الجميع وكان بداية لواحدة من اكثر الثورات تكلفة انسانيا والاطول … لقد دخلت الجماهير بقوة إلى ساحة العمل في “المجالات التي تتقرر فيها مصائرها”.. إنها الثورة.
منذ الثامن عشر من مارس يشن النظام الدكتاتوري حرباً وحشية بكل معنى الكلمة ضد الشعب الثائر المطالب بالحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية، ويدفع نحو حرب أهلية وطائفية، وبكل براعة استطاعت قوى الثورة أن تجهض محاولاته حتى الآن.
بعد أكثر من عام على الثورة المستمرة لم يسقط النظام بعد ولكنه في المقابل لم –و لن- يستطع القضاء على الثورة. وكما سبق أن قلت فإن قوى الثورة المضادة تضم –إضافة إلى القوى الحليفة له- قوى تقول أنها تدعم الشعب السوري لكنها تعمل على احتواء الثورة أو حرفها عن مسارها. بالتالي يمكن القول، وان بمنطق تجريدي، ان كل الاحتمالات واردة من الاسوأ إلى الافضل. لكننا نرى ان صمود الجماهير واستمرارها في ثورتها وافشالها لكل محاولات النظام وغيره عن حرفها عن سياقها السياسي والاجتماعي الاصيل اضافة إلى ابداعها لهيئات تنظيمها الذاتي ونشوء نواة لقيادة جماهيرية ثورية بديلة مع تشكل ائتلاف “وطن” في منتصف فبراير 2012، ولكون القوى المحركة للثورة هي العمال والكادحين والمهمشين التي تدفع بالسيرورة الثورية إلى اقصى مداها : أي اسقاط النظام والظفر بالحريات الديمقراطية والانتقال إلى تحقيق اعمق التغييرات السياسية والاجتماعية لصالحها…فإننا واثقون من انتصار الثورة الشعبية.
فالسيرورة الثورية في سوريا- وفي البلدان العربية الأخرى- لن تتوقف عند محطة واحدة. إنها سيرورة مستمرة ستستغرق سنوات. كيسار ثوري نقف في خندق العمال والكادحين والدفاع عن مصالحهم العامة والتاريخية في هذه العملية الثورية، ونعتقد أنه لا يمكن تقوية اليسار الثوري نفسه إلا من خلال انخراطه الجدي في نضالاتها الثورية والعمل في الوقت نفسه على بناء الحزب العمالي الجماهيري داخل الثورة ومن اجل انتصارها.
بعض التقارير رصدت تأثير الربيع العربي الذي أثمر قمعا شديدا بدول أخرى. وبعد تحول الاحتجاجات من شكلها السلمي كما في تونس ومصر إلى المسلح كما في ليبيا وسوريا، ماذا تتوقع حول مستقبل الثورة في المنطقة وفي العالم المحيط ؟
إن شرارة الثورات في منطقتنا، التي اندلعت في تونس ليصل لهيبها إلى مصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين وتطرق أبواب المغرب والأردن والسعودية، جعلت كل أنظمة الفساد والاستبداد والاستغلال ترتعد، ما يفسر محاولات كل هذه الأنظمة العمل بكل الوسائل من أجل احتواء أو إجهاض هذه الثورات.
والحال، فقد تراوح شكل إسقاط الأنظمة ما بين النضالات الجماهيرية السلمية أو المسلحة أو تلك التي تمزج بين الاثنين، لأن كيفية إسقاط النظام يعتمد على طبيعة وتكوين الأنظمة المعنية.
لكننا بالتأكيد قد دخلنا مرحلة تاريخية ثورية جديدة، وما نراه اليوم ليس إلا الموجة الأولى من ثورات القرن الحادي والعشرين، وهو ما يشكل دحضاً دامغاً على أطروحات الكثيرون قبل سنوات بأن عصر الثورات قد ولى، وهي في الوقت عينه جواب على تساؤل البعض عن الشكل الذي يمكن أن تأخذه الثورات في القرن الجديد.
تندرج الثورات “العربية” في إطار عالمي يتميز بأزمة متفاقمة للنظام الرأسمالي العالمي ككل، ولخصوصية تجليات هذه الأزمة في منطقتنا. أذكر سريعاً بأن مجتمعاتنا شابة وأن نسبة بطالة الشباب فيها لا تضاهى، مع نسبة فساد مذهلة واستبداد عنيف. وفيما يخص سوريا أضيف، علاوة على ما ذكرت، تطبيق سياسات نيوليبرالية في العقد الماضي كانت من أكثرها شراسة في المنطقة.
أعتقد أن هذه المرحلة الثورية ستمتد على سنوات طويلة وستشهد محطات عديدة، ولكنها لن تتوقف عن حدود ما بل ستجتاح أغلب إن لم يكن كل بلدان المنطقة، ولن يقتصر تأثيرها على بلداننا بل أنها وصلت مثلاً إلى أوروبا نفسها وخاصة اليونان وإسبانيا وغيرهما.
لسنا سوى في بداية سيرورة ثورية مستمرة في مداها الزمني والجغرافي وفي المهمات المركبة المطروح عليها حلها.. من أجل الخلاص من دكتاتورية رأسمال بعد الخلاص من الدكتاتورية السياسية.. إنها الثورة الدائمة أيها الرفاق.