أيمن الشوفيصفحات المستقبل

في سوريا.. احتجاج المعلّقين بين غفوتين/ أيمن الشوفي

 

 

 

الكآبة محصول الوجوه، استيقاظٌ بين غفوتين، “زينة” بثلجها وصقيعها المكلفين، وشمس كانون الثاني نادرة الظهور، وكأنها قطعٌ أجنبي، فلا وقت متاح لعبور حارات دمشق القديمة بشهية الشعراء، ولا فائض منه لإلقاء التحيّة على جيوب الفقراء، حيث سينضب ما فيها بعد ساعاتٍ، وسيصير العوز لساناً ينطق به شبابٌ سوريون لا هم مع “النظام”، ولا هم مع “المعارضة”. بل يديرون بلداً يشبه سوريا، لا هو في السماء، ولا هو على الأرض. هم الذين لا مكان لهم بعد الآن.

مقاطعة من متحف

يمكن بلوغ حديقة “المتحف الحربي” من عدّة وجهات، نزولاً بمحاذاة “التكيّة السليمانية”، أو من جسر “فيكتوريا”، أو حتى من “الحلبوني”. حديد الطائرات المحنّطة فيها على حاله، لا يزالُ متعافياً من آفة الصدأ، وما يزال نادر محجوب، وهو طالبٌ في كلية الحقوق في جامعة دمشق، يقصد الحديقة مرّاتٍ قليلة في الأسبوع. يدفع خمسين ليرة ثمن كأسٍ من الشاي، ويدخّن بشراهة. عاشقٌ هجرته حبيبته، يأتي إلى هنا ليستأنس بروح المكان، حيث تكفيه فسحةٌ خضراء ليتنفّس ويشكو من العوز، بعدما ارتفعت الأسعار مؤخّراً إلى مستوياتٍ لا يفهمها مصروفهُ الهزيل، فتدابير السلطة الاقتصادية تبدو غير مفهومة كفاية بالنسبة له، لكنها قد تدفعهُ إلى الجنون.

يقول: “لِمَ لا نقاطع كلّ شيء، فلا نشتري إلا ما يبقينا على قيد الحياة، ولمَ لا نقاوم كلّ هذا الظلم بالمقاطعة، فنبدأ بمقاطعة شركتيّ الخلوي، فنستخدم الهاتف الأرضي، ثم نقاطع كل البضائع المستوردة، والكماليات، علَّ ذلك يخفّض قليلاً من أرباح من يمسك بمصائرنا، ويمتصّها، ويحرّكنا كما لو أننا دمى”.

ثم تغادر عيناه المكان، تلحق بوجوه المارة، وبوجهاتهم، أو تتفحّص الواجهة البيضاء لفندق “الفورسيزون” قبالتهُ. يضيف: “أو لِمَ لا نطلق حملةً نسمّيها مقاطعة، وننشئ لها صفحةً على فايسبوك وندعو فيها إلى سدِّ كل القنوات التي تدرُّ الربح على رموز السلطة. لقد مرّت أربعة أعوامٍ مشى فيها العالم إلى الأمام، إلا نحن اكتفينا بالانتحار في مكاننا”.

يجرّب صوت نادر أن يمتحن جديّته فيما يمرُّ بمحاذاة صوته فزعٌ من اللاجدوى. يقول وكأنّه يسأل: “يجب فعل شيء قبل أن يصير هذا البلد كلّه متحفاً حربياً كبيراً، ونصير نحن مقتنياته غير القابلة للصدأ”.

إضراب من مطعم

بعد محاولة تفجير مقر “الاتّحاد العام لنقابات العمال” في دمشق، بواسطة دراجة هوائية مفخخة، بدأت السلطات السورية حملة اعتقالٍ لأصحاب الدرّاجات، ما دفع بحاتم صليبي إلى هجران درّاجته الهوائية، وهو الذي ألفها لعامٍ كامل، وهجر معها وسائط النقل العامة، حين يقصد عمله كمحاسبٍ في أحد المطاعم، فعمله لا يبعد أكثر من عشرين كيلومتراً عن بيته. مؤخّراً صار عمله سبباً إضافياً لنفوره من الحياة، ليس بسبب حرمانه وكثرٌ مثلهُ في القطاع الخاص من الزيادات الدورية على مداخيلهم، خلافاً للزيادات التي يجنيها موظّفو الدولة فحسب، بل ولأنّ تصديق الحياة حوله بكل ما فيها، بات معادلةً لا يفقه حلّها، لكنه يفهم بأنّه أشبه بالوقود، أشبه بطاقةٍ تلزم لاستمرار عمل المجهول، وكأنّه أيضاً ومضةٌ سرعان ما تمضي بلا أثر. يقول: “لو أستطيع إقناع الناس بالإضراب مثلاً، بأن يلزموا بيوتهم، فلا يخرجون إلى العمل، أو إلى الشارع، أو إلى المطعم. ماذا يحدث لو أطفأنا حركتنا كلّنا دفعةً واحدة، قد تتفكّك السلطة حينها من تلقاء نفسها، فحركتنا هي وقودها الذي يلزمها كي تعيش، وتنمو”.

يحاول حاتم ترتيب أفكاره أكثر، ولعله يناقشها مع أصدقائه المقربين في أماسي الخميس حين يسهرون حتّى ساعات الفجر الأولى، يشربون البيرة الممزوجة مع الكحول، ويستلقون على ظهورهم، كما لو أنهم يبحثون بعيونهم المخدّرة عن قطعة أرضٍ معلّقة بين السماء وبينهم، فيلجؤون إليها، ويسمّونها سوريا، بعدما فقدوا نسبهم الواقعي إلى حياةٍ لم تعد تشبههم في شيء.

فصام لونه أخضر

في متجرٍ يبيع الإكسسوارات النسائية المصنّعة يدوياً من مواد طبيعية تعمل نجلاء مشهور. لم تشأ الخوض في تفاصيل مدى واقعية الإضراب أو المقاطعة. مع أنها مرتابة من الواقع، لكنّها تتريّث في اقتراح سبلٍ لتفاديه، وتفادي كلفة الحياة الباهظة في سوريا، فتؤمن بجدوى الانعزال عن كل العلاقات القائمة قدر المستطاع، وتقول: “جرّب السوريون منذ آذار عام 2011، وربّما مرّاتٍ كثيرةٍ قبله، إعادةَ صوغ عقدٍ اجتماعيٍّ جديد. لكنّ السلطة القائمة أزهقت كلَّ محاولات الحراك المجتمعي، بحيثُ لم يبقَ شيءٌ إلا وجرّبه السوريون دونما طائل، فماتوا، أو هاجروا، أو نزحوا، فيما شكلُ السلطة القائمة على حالهِ لا يتغيّر”.

لذا تفكّر نجلاء بجدوى العيش ضمن مجموعاتٍ بشريةٍ صغيرة تمتهن الزراعة، علّها تصوغ من ورائها اكتفاءً ذاتياً، وتتجنّب الدخول في أيّ علاقاتٍ مع المجتمع القائم.

قد يكون هذا الطرح أشبهَ بابتكار مساحةٍ خضراء هائمةٍ فوق الواقع، وتعلوهُ بدرجاتٍ، وتكون قادرةً على إنتاج فسحات عيشٍ أكثر نقاءً وإنسانيّة. حتى ولو كانت معلّقةً بين السماء والأرض، أو بين غفوتين.

(دمشق)

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى