بكر صدقيصفحات مميزة

في عقم الحلول الدولية حيال سورية…


بكر صدقي *

لنفترض أن الروس اقتنعوا أخيراً بإيجاد «تسوية للأزمة» في سورية تقوم على تنحي بشار الأسد وترحيله وعائلته من البلاد مع ضمانات قانونية بعدم محاسبته على الجرائم التي ارتكبها، أو ما بات يسمى بـ «الحل اليمني». سنكتشف منذ تلك اللحظة أن «النظام» ليس هو بشار الأسد وعائلته، بل شبكة معقدة من القطعات العسكرية والأجهزة «الأمنية» والمافيات العائلية القوية، إضافة إلى ميليشيات مدنية من العلويين بصورة رئيسية تسمى الشبيحة. ليس هذا وحسب، بل يجب أن نضيف إلى ما سبق شبكة من الإداريين في مختلف مؤسسات الدولة، مصالحهم مرتبطة بالنظام البائد.

سيدافع كل هؤلاء عن مصالحهم بكل ما يملكون من امكانات. ستكون أي حكومة انتقالية عاجزة عن ممارسة مهماتها بسبب امتناع مؤسسات الدولة وأجهزة الأمن والجيش عن تنفيذ أوامرها. ستواصل تلك الأجهزة معاملتها الكيدية للمواطنين فتقوم باضطهادهم بمختلف الذرائع، وقد يضطر رئيس الحكومة إلى العمل كمحام مدافع عن حقوق الإنسان، فيلاحق بنفسه الانتهاكات، في الوقت الذي يحتاج البلد فيه إلى حل مشكلة مليون ونصف من النازحين في الداخل والخارج، وبناء ما تهدم من عمران في عمليات قصف المدن والبلدات، وتأمين موارد الطاقة ودفع أجور الموظفين والعمال، وتأمين الخبز لملايين السوريين.

في الوقت نفسه، سيتخذ الشبيحة المسلحون من القرى والأحياء العلوية متاريس لهم للدفاع عن أنفسهم في مواجهة القوات الحكومية التي تريد تسليمهم للقضاء، أو في مواجهة مجموعات سنية مسلحة تريد الثأر للمجازر التي ارتكبها الشبيحة. سيحتاج الأمر في الحالة الأخيرة إلى جيش مؤهل للفصل بين مجموعات متقاتلة، غير موجود عملياً في سورية. فقسم من الجيش الواقعي هو امتداد عسكري للشبيحة، في حين أن القسم الآخر إما أنه انشق سلفاً والتحق بالجيش الحر غير المجهز لأي مواجهة خطيرة، أو أنه يفتقد أصلاً للتدريب والتجهيز المطلوبين.

وسيكون كبار حيتان الطبقة الفاسدة المحيطة بعائلة الرئيس قد هربت أموالها خارج البلاد، فضلاً عن قسم كبير من أصحاب رؤوس الأموال العاديين هرباً من الأوضاع غير المستقرة. في المقابل سنشهد حركة كبيرة من الهجرة المعاكسة تتضمن عودة أشخاص مغامرين ركبوا موجة الثورة حين كانوا خارج البلاد، سيسعون إلى قطف الثمار من سقوط النظام. أتحدث عن طبقة جديدة من الفاسدين ستفعل كل شيء لتحل محل الطبقة الفاسدة التي فقدت امتيازاتها.

نستخلص مما سبق أن ما نسميه «النظام» في اللغة الدارجة ليس العائلة الحاكمة وحدها، ولا الأجهزة الأمنية وبعض قطعات الجيش وحدهما، وليس الشبيحة وحدهم، وليس طبقة المافيات المنتفعة وحدها، وليست طبقة الإداريين الفاسدين وحدهم. إنه كل ذلك معاً وأكثر. باختصار شديد: نحن لا نملك في «سورية الأسد» ترف التمييز بين النظام والدولة. بل إن النظام هو الدولة زائد أشياء أخرى كثيرة (مثلاً الشبيحة). إسقاط النظام يعني إسقاط الدولة وأشياء أخرى كثيرة، لبناء دولة جديدة من الصفر تقريباً. وهي مهمة تفوق طاقة السوريين وتتطلب جهوداً عربية ودولية متناسقة، مع صفاء النيات.

الواقع أن اجتماع جنيف الأخير الذي جمع، بمبادرة من كوفي أنان، مجموعة الاتصال الدولية الخاصة بالملف السوري، انتهى إلى «خريطة طريق» أدنى بكثير من الحل اليمني الموصوف أعلاه. فالاجتماع هذا وإن دعا «جميع الأطراف» إلى وقف العنف والانخراط في عملية سياسية نواتها حكومة «وحدة وطنية» تضم المعارضة إلى النظام، لم يقل لنا شيئاً عن سبب فشل خطة أنان ذات النقاط الست في وقف العنف قبل الانتقال إلى أي بند آخر من الخطة. فلا نعرف ما هو الجديد في سلوك النظام مما يشجع على التفاؤل بنجاح الخطة الانتقالية الجديدة بعد فشل خطة أنان الأولى. الواقع أن الجديد النوعي في سلوك النظام هو القصف المنهجي للمدن والمناطق المحررة من بعد، ذلك القصف المدفعي والجوي الذي تحول إلى السمة الأبرز لقمع النظام منذ دخول خطة أنان حيز التطبيق.

يعبر هذا القصف من بعد عن انحسار سيطرة النظام المتفاقمة على الأرض. فحيثما خرجت مدن وبلدات عن سيطرته وفشل في اقتحامها، لجأ إلى القصف من بعيد الذي يؤدي بدوره إلى نزوح السكان وبقاء الجيش الحر وجهاً لوجه أمام قوات النظام. والنتيجة المألوفة لهذا المسار هو ما يسميه الجيش الحر بـ «الانسحاب التكتيكي». يليه اقتحام قوات النظام المكان، الفارغ من السكان والحياة، وبقاؤها فيه بضعة أيام. بعد ذلك تنسحب قوات الأسد لأن بقاءها لم يعد يفيد في شيء، وتنتقل إلى مدينة محررة أخرى لتقصفها طوال شهر ثم تقتحم الفراغ مجدداً، وهكذا…

كلف هذا التكتيك العسكري في الحرب بين الجيش الحر وقوات الأسد نحو أربعة آلاف قتيل ومئات الآلاف من النازحين، منذ بدء تطبيق خطة أنان في العاشر من نيسان (أبريل) الماضي.

من المحتمل أن روسيا التي تحولت إلى ناطق باسم نظام دمشق، رأت في انحسار سيطرته على الأرض، وتصاعد وتيرة تفكك قواته المسلحة، وتزايد عدد قتلاه من الجيش والأمن والشبيحة، نذر شؤم بقرب تفكك النظام نفسه وسقوطه. وما «خطة جنيف» إلا محاولة جديدة من روسيا لإنقاذ النظام الذي نجح نجاحاً باهراً في تحويل التظاهرات السلمية إلى ثورة مسلحة أخذت تدق أبواب دمشق والمحيط القريب لقصر المهاجرين.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى