في ما خصّ الطوائف واللادول…/ حمّود حمّود
من الغريب جداً في عصر الحداثة أنْ نجد «الدولة» قد شكلت أحد أهم الأسباب البنيوية الكبرى التي أُعيد بها ومن خلالها تأزم الهوية السنية والشيعية. إنها من المفارقات التاريخية. فالقول أنّ الدولة في البلاد الغربية كانت تمثل أهم المؤسسات السياسية في إعادة نقل بشرها من أممٍ مسيحية متصارعة على المقدس إلى دول سياسية متحدة أو متنافسة في المصالح السياسية، قولٌ ما زال من المبكر جداً نقله وتطبيقه على الفضاء المشرقي. ولا يكمن السبب في تأزم مفهوم الدولة عندنا فحسب (وهو التأزم الذي ورثناه من الوثبات القومية العربية الكبرى إلى ما وراء الدولة، إلى الأمة، إسلاميةً كانت أم عربية، لا فرق)، بل يكمن أيضاً في التأزم عند كلّ من السنة والشيعة في النظر إلى الدولة، بل وحتى في ممارسة الدولة والاندراج في إطارها.
نحاول في هذه العجالة القول أنّ الدولة بمقدار ما كان «غيابها» تاريخياً عن الشيعة يؤدي دوماً إلى تأزمات سياسية (التأزم في تمثيل ومأسسة الطائفة، خاصةً)، كان «حضورها» تاريخياً في الشارع السني أيضاً يقود إلى تأزمات سياسية في ممارستها (التأزم، بخاصة، في اقتصار تعريف الذات السنية من خلال الدولة، فضلاً عن الإقصاء الذي مورس بحق الجماعات الدينية والخلاصية الأخرى).
من ميزات الصعود الأصولي في العقود الأربعة الماضية أنه كشف التالي: حضور الدولة أو غيابها ضمن فضاء الطائفة يعني حكماً إعادة إنتاجها. ودائماً الشيعة والسنة هما المثالان الأقوى على ذلك في بلاد المشرق المريضة بالطائفة، حيث حضرت الدولة عند الشيعة وغابت عن السنة. وفي الحالين، لم يكن حضورها أو غيابها سوى سبيل لإعادة تعريف الذات والهوية: فالشيعة، أولاً، الذين لم يكونوا يستطيعون النظر، تاريخياً، إلى ذاتهم الخلاصية سوى من خلال عين «المعارضة»، معارضة الدولة، قد أُعيد تكوينهم اليوم وجُعل منهم «طائفة أخرى»، غير تلك التي نقرأ عنها في التواريخ التراثية، وكل ذلك تم من خلال الخيميني. والحال، أنّ هذا الأخير لم يقم، حينما سيطر على إيران، بدمج شيعة إيران بالدولة أو أعاد «تدويلهم» ضمن إطارها السياسي الحديث، بل أعاد، للأسف، خلط أوراق الدولة بأوراق الطائفة (بعض الأحيان، في عمق أوراقٍ قومية فارسية تمتد إلى ما قبل الإسلام). هكذا، ليغدو الخميني لا قائداً على «إيران الدولة»، بل كاهناً ينطق بالسماء على «الشيعة الطائفة»: أينما وُجد شيعي ما، داخل أو خارج إيران الدولة، فهناك روح الخميني عليه!
لا معنى للتساؤل، ضمن هذا الإطار الخمينيّ، أين يكمن مفهوم الدولة، بل حتى أين تبدأ إيران أو أين تنتهي. إنها ستكون في عمق الولايات المتحدة لو كان الحوثيون هناك. الدولة هنا هي هيام عدمي منفلت العقال من إطار المؤسسة أو الجغرافيا. وهذا العدم أشبه بعدمية الأمة العربية بالمعنى القومي الصرف. من الممكن إضافة نقطة أخرى هنا: إنه بتحول الشيعة إلى «طائفة أخرى» مع الخميني، أصبحت الدولة تُستخدم لا كـ «جهاز سلطة» تهيمن فيه النخب الكهنوتية فحسب، بل أداة لإخراج حتى الشيعة مما تبقى لديهم من مفهوم الدولة. الشيعة في لبنان خير مثال على هذا. وقل الأمر نفسه في حالة دول أخرى بمستويات أخرى. الكثير يمكن قوله في هذا المسار. لكن ما ينبغي التشديد عليه هو أنّ حضور الدولة في الشارع الشيعي كان قد مثل أداة تدمير لا بناء واندماج، وأيضاً أداة إعادة تطييف لكل ما يمت إلى المخيال الطائفي بصلة.
أما السنّة، ثانياً، فلديهم مسار في ممارسة الدولة يختلف عن الشيعة (لكن ضمن الحدود السلوكية والسوسيولوجية لا الأنثروبولوجية). وإذا كانت الحال أنّ السنة لا يستطيعون إدراك ذاتهم إلا ضمن الدولة (نقصد هيكل الدولة كسلطة، لا بالمعنى الحقيقي)، فإنه مع غيابها اليوم أصبحوا أيضاً «طائفة أخرى» غير تلك نقرأ عنها في التاريخ الإسلامي، أو بمعنى أدق أعيد خلق هذه الطائفة في مقابل مسارات متعددة، ليس أقلها الصراع مع الغرب، واليوم يعاد خلقها وفق مسطرة الصراع مع الشيعة (نقصد تحديداً النخب الأصولية من الجانبين). الحديث عن مفهوم السنة للدولة حديث طويل بالفعل، لكن ما يهمنا هنا أنه في كل مرحلة كانت الدولة تغيب فيها عن السنّة نجد صعوداً أصولياً هائلاً. هذا ما قرأناه مع زوال الخلافة الإسلامية والرد الأصولي الإخواني اللاحق على هذا، وهذا ما نقرأه اليوم في أجزاء واسعة من المشرق.
وإذا كانت إعادة خلق السنة تتم اليوم بالتساوق مع التشظي الأصولي، الذي لطالما يحاول أيضاً سرقة الشارع السني لطرفه (انظر لحالة الإخوان في سورية)، فإنه من الصحيح كذلك أنّ مثل هذه العملية تتم وفق مسار سردية مظلومية لا تجد، في أجزاء واسعة منها، متنفساً لها في الحداثة السياسية بل في الأصولية (انظر إلى حالة العراق الذي تختلط الأوراق فيه الأصولية بالقبلية). واليوم، بالفعل، يمثل التشظي في المجتمعات السنية من أكبر الفرص الذهبية لانتعاش الشارع الأصولي وسرقة هذه المجتمعات إلى جانبه، هذا فضلاً عن المحاولات الأصولية المميتة في تطييفها، وتدمير ما تبقى لدى هذه المجتمعات من مفهوم الدولة (ليس الأمر من غير دلالة أنْ يمتد داعش من «دولة العراق والشام» إلى باكستان).
نقطة أخيرة في هذا الجانب: إذا كان الأمر أنه «يعاد» خلق المعارضات السنية الأصولية اليوم مع غياب الدولة، فإنّ المسار «المعارضاتي» لم يتغير كثيراً لدى الشيعة حين كانت الدولة غائبة عمّا غدت عليه الحال لاحقاً. فلم يشفع حضور الدولة بإلغاء الذهنية المعارضاتية. والحال، أنّ هذه الذهنية تعود، بالدرجة الأساس، إلى الذهنية الأصولية نفسها التي سيطرت على فارس. الأمر نفسه ينطبق على الأصوليات السنية عند «داعش» أو «الإخوان». فطالما أنّ هناك ذهنية أصولية تبغي خلاصاً إيسكاتولوجياً، أمةً ذهبية، هناك إسرائيل، هناك الغرب، فحتماً هناك «الحق» ووجوب حضوره، وبالتالي معارضة «الباطل»، وبالتالي الوقوف ضد الدولة. المسار المعارضاتي الأصولي السني في سورية والعراق شاهد على ذلك؛ وقل الأمر نفسه على الحضور «اللادولتي» (أي الجماعاتي) الأصولي الإيراني، بل وحتى التخريبي، في معظم دول المشرق.
* كاتب سوري
الحياة