في معرفة كيف نفكر/ إبراهيم غرايبة
يقدم مارفن هاريس في كتاب «مقدسات ومحرمات وحروب» تفسيراً عقلانياً للسلوك والمعتقدات الدينية، بالنظر إليها محاولات لحماية الموارد وتنظيمها بإيجابية، وتحويل الأعمال والأفكار المفيدة إلى مقدسات دينية، أو في عبارة أخرى مواجهة الإغواء الذي يضر المنظومة الاقتصادية والاجتماعية بالتحريم الإلهي، وتوظيف المحرمات والمقدسات في وظائف اجتماعية واقتصادية، وبالطبع فإنه منهج قديم في الفهم العملي والعقلاني للدين سواء من جانب اللاهوتيين أنفسهم أو علماء الاجتماع والانثروبولوجيا.
وعلى سبيل المثل، فإن تحريم ذبح الأبقار في الهندوسية وتحريم لحوم الخنزير في اليهودية والإسلام يعكسان نظاماً اقتصادياً وبيئياً ملائماً، فالحفاظ على حياة الأبقار يتضمن فوائد اقتصادية كثيرة تفوق ذبحها حتى لو كان في ذلك تضحيات وخسائر كما يبدو، ذلك أن البقرة تلد أبقاراً، ويشكل الثور عمدة الحياة الزراعية في الهند للجر والحراثة، ومن دونه فإن المزارع يفلس، وتقدم البقرة الحليب للطعام، كما أن روثها مصدر للسماد والطاقة الضرورية للطهو والبناء، وعندما تموت فإن فئات اجتماعية تأكل جثتها وتستفيد من جلودها. كما أن البقرة تتغذى أساساً على مواد لا يحتاج إليها الإنسان، مثل القش والأعشاب، وعلى أي حال فإنه لا يتوقع أن يستطيع أكثر من عشرة في المائة من الهنود أن يجعلوا من لحم البقر جزءاً من نظامهم الغذائي سواء كانوا يؤمنون بذبحها أم لا.
وفي القرن الثاني عشر الميلادي ردّ الرابي والفيلسوف والطبيب موسى بن ميمون تحريم الخنزير إلى أن لحمه يضر بالصحة، لكن ابن ميمون فتح المجال مبكراً للبحث عن تفسير طبيعي واقعي للتحريم، وإن قدم في ذلك رؤية طبية خاطئة.
يجد هاريس تفسير التحريم في فهم العمليات الأساسية التي يتمكن البشر والحيوانات بواسطتها من التعايش في جماعات طبيعية وثقافية قابلية للحياة، يقول: «أعتقد أن التوراة والقرآن حرما الخنزير لأن تربيته تشكل خطراً على سلامة المنظومات البيئية الأساسية للشرق الأوسط، فالخنازير في بيئة الشرق الأوسط تهدد البيئة أكثر مما هي استثمار، ففي هذه البيئة الجافة قليلة المطر تشكل المواشي المجترة مجالاً أفضل للتقاسم الغذائي والتكيف البيئي، ويعتبر الخنزير كائن أحراج وضفاف أنهار مظللة في المقام الأول، ومعظم غذائه يأتي من الغذاء منخفض السيليلوز كالحبوب والثمار والدرنيات؛ ما يجعله المنافس المباشر للإنسان، فهو لا يستطيع أن يعيش على العشب وحده، كما أنه ليس مصدراً للحليب، ولا يمكنه الانتظام في قطيع. والخنزير سيئ التكيف مع البيئات الحارة والجافة، فقدرة الخنزير على التعرق تساوي 3 في المائة من قدرة الإنسان ما يجعله يتعرض للموت إذا ارتفعت حرارة الجو أكثر من 30 درجة مئوية. ولتلافي ذلك يحاول ترطيب جلده بمرطب خارجي كالتمرغ في الوحل الرطب. وتزيد قذارة الخنازير بسبب ارتفاع الحرارة لكنه يسلك سلوكاً نظيفاً إذا انخفضت الحرارة عن 28 درجة.
والحال أن الناس دولاً ومجتمعات وأفراداً يتصرفون، كما تقول كاثلين تايلور، معتقدين أنهم على صواب، ولديهم أسباب جيدة لتفسير رؤيتهم، وتحيط باختياراتهم الرغبات العاجلة والمباشرة، والضغوط الناشئة عن الموقف، ثم في تكرار الأفعال التي نحسبها صواباً نتحوّل إلى لا مبالين بأفكار الناس ومواقفهم ومعاناتهم، فلا نعود نرى إلا ذواتنا.
ربما تكون هذه الأفكار مفيدة في السيطرة على المعتقدات الزائفة، فالمعرفة بالحقائق وكيف نفكر سوف تساعدنا في تحدي التنميط في الأفكار، وأن نعيد فهم التاريخ، وكيف صارت صراعات ومصالح أساساً لمعتقدات راسخة تشكل الناس في صراعات مديدة. وكيف تحولت مصالحنا ومخاوفنا إلى فلسفة وعقائد متماسكة نحارب الآخرين لأجلها.
* كاتب أردني
الحياة