في نقد إستراتيجية الثورة: غازي دحمان
غازي دحمان
ليس صدفة، حالة التخبط المريعة التي تعيشها الثورة السورية اليوم، ثمة حالة بنيوية أنتجت هذه التوليفة الغريبة، ولا يفيد كثيراً محاولة إصلاح البناء التنظيمي للثورة، عبر ترقيع هيكلية أطر الائتلاف الوطني، ما لم يتم إدراج هذه التغييرات في سياق العمل الثوري المحايث والفاعل، إذ ما عادت تنفع كثيراً إستراتيجيات التغيير الفوقي ذات الوظيفة السياسية التفاوضية، حصراً، في ظل ركون الجميع إلى ما ينتجه الميدان، واعتباره سقف كل التسويات والشرط الشارط لها.
الثورة السورية اليوم أمام تحدي بناء إستراتيجية جديدة لتتمكن من تجاوز كل عثرات المرحلة السابقة، فمن المعروف أن الثورة قامت من دون تخطيط ، ومن دون تصور معين، كان تأثير الحالتين المصرية والتونسية واضحاً في المرحلة الأولى، من دون الالتفات إلى الظروف الموضوعية المحيطة بكل من مصر وتونس، كما أن ثمة قراءة خاطئة للحالتين السابقتين وقعت فيهما الثورة السورية. صحيح أن الثورة التونسية كانت عفوية ومفاجئة، لكنها كانت تمتلك الأدوات اللازمة لإنجاز هذه المهمة، وقد تمثلت بالنقابات التي كانت تملك هامشاً من الحرية وقدراً من الخبرة يؤهلها لقيادة الحالة. وقد برز في هذ الإطار الإتحاد التونسي للشغل وكان دوره فاعلاً وحاسماً في حسم نتيجة الثورة. أما في مصر فقد كان الوضع أكثر تنظيماً، ذلك أن البلاد شهدت ومنذ عام 2005 حالة حراك سياسي معارض، ظهرت خلاله مجموعة من الكيانات السياسية والشخصيات المؤثرة، التي إستطاعت أن تقود الحراك ضد نظام مبارك، وتسقطه في ميدان التحرير.
في سوريا، لم تمتلك الثورة إستراتيجية واضحة، ولم تكن ثمة قوى قادرة على بناء هذه الإستراتيجية. وحتى لو أرادت، فإنها لم تكن تمتلك الإمكانيات والموارد والأدوات، رغم أنها واجهت نظاماً يبتلي بذات الداء. صحيح أنه استعمل القوة المفرطة في مواجهة الثورة، لكن كشفت الأيام الأولى للثورة أنه لم يكن يملك حتى تقديراً للموقف حول كيفية مواجهة الثورة، وانه كان يتصرف بردة فعل همجية أكثر منها فعل مخطط ومدروس. كان من الممكن الإفادة من هذه الثغرة، لو تم العمل عليها بشكل جدي من قبل قيادات الثورة، أو تلك التي كانت تخطط للقيام بها.
ما هي الإستراتيجية المقصودة؟.
هي خطة عمل الثورة وبرنامجها لإسقاط النظام، طبيعة الرهانات، أوراق القوة في مواجهة النظام، الإنتقال إلى الخطط البديلة.
لقد إتضح منذ بداية الثورة عدم وجود برنامج متكامل لفعاليات الثورة، وأن أغلبها كانت تسيره دينامية الزخم الشعبي، ولم يكن يصدر عن برنامج موحد يستفيد من هذه الفعاليات ويوظفها لصالح الثورة، الأمر الذي اختزل العمل الثوري في إطار التظاهرات الشعبية، التي صارت تعاني من تكرار مشهديتها وحركتها، من دون إضافة أي تعبيرات أخرى، وإن جرى الالتفات إليها مؤخراً، كالإضرابات والإعتصامات وسواها من تدرجات الفعل الثوري. لكن في هذه المرحلة كانت الأمور قد أخذت طابعاً أكثر عنفاً، من قبل النظام خصوصاً، ما جعل إمكانية تطبيق هذه الإجراءات أمراً صعباً، فضلاً عن عدم جدواه، بعد أن تأخر الزمن كثيراً لمثل هذه الإجراءات. والحال أن الثورة ابتليت بالإشكاليات والعاهات ذاتها التي ميزت عمل النظام. أي التأخر في الإستجابة، ونقص المبادرة، والركون للسهل والمعروف.
واتضح منذ بداية الثورة أن الصدفة والظروف وإمكانية حصول متغيرات مهمة، هي الرهانات الأساسية للثورة. وحتى اللحظة لم تكن الثورة قد بلورت قيادات ميدانية وسياسية موحدة، ولم تمتلك خطة إعلامية تعبوية. كما لم تكن كوادر الثورة قد تخلقت بعد. هذا لاينفي قيام حالات إيجابية للعمل الثوري في مناطق محدّدة، حيث تكونت في هذه المناطق قيادات مدنية مشتركة من حزبيين ونقابيين، استطاعت توحيد العمل الثوري وتنظيم العملية الثورية. ساعدها في ذلك درجة التجانس السكاني الكبير في تلك المناطق. غير أن هذه التجارب ظلّت حبيسة مناطقها، ولم يصار إلى تعميمها، ولا توحيد جهودها على المستوى السوري عموماً، وانتهت بدخول قوات النظام إلى هذه المناطق.
إن عدم وجود إستراتيجية واضحة للثورة، جعلها لا تقدم إجابات محددة، ليس حول سقوط النظام، وإنما أيضاً المرحلة التي تلي سقوط النظام. وعموماً، فإن هذا الأمر سهل على النظام إختراق الثورة في بنيتها وتكوينها وفي خطابها. وفتح المجال واسعاً أمام ظهورقوى لها أجندات خاصة، لا علاقة لها بالثورة، ولا بالأهداف التي إنطلقت لأجلها، خصوصاً تلك الأهداف المتعلقة بمدنية الدولة وديموقراطيتها.
هذا النقص في صياغة إستراتيجية ثورية كان له منعكسات خطيرة على أرض الواقع، تمثلت في فشل الثورة في قطاعات ومجالات حيوية، كان من الممكن أن يكون لها تأثير إيجابي في مسار الثورة ومآلاتها:
فشلت الثورة في جذب القوى المؤثرة اجتماعياً واقتصادياً، ولم تستطع الثورة فك حالة التشابك القائمة بين النظام وطبقة رجال الأعمال، وإن حصلت على تعاطف من بعضهم، فقد حصل الأمر من دون خطة ولا مجهود محددين، كما أن رجال الأعمال الذين هاجروا لم ينضموا للثورة ولم يخدموها. ولعل السبب وراء هذا الفشل راجع إلى حقيقة أن الثورة، ولشهور عديدة، لم تستطع بلورة مشروع اقتصادي واضح ومحدد المعالم.
فشلت الثورة في جذب الكتل المدنية الكبيرة من الطبقات الوسطى. صحيح أن أفراداً كثر من أبناء هذه الطبقة شاركوا بالثورة وفعالياتها المختلفة، من إغاثة وغيرها، إلا أن هذا الأمر حدّ من فعالية هذه الطبقة ككتلة، وكان ذلك بسبب التأخر الكبير في بلورة برنامج للثورة يؤطر فعاليات هذه الفئة ويحتويها.
فشل الثورة في اختراق قلب النظام، الدائرة المحيطة برأس الحكم. والحقيقة أن الثورة كانت تأنف عن القيام بهذا الفعل كي لا تضع نفسها في شبهة التعامل مع الدوائر الأمنية والأجهزة، وبالتالي فشلت في شق صفوف النظام، ولم تتعامل مع هذا الإحتمال بوصفه خياراً وورقة قوة يمكن اللجوء إليها. الثورة أرادت قلب النظام بكل رجالاته ودوائره، وراهنت في هذا الأمر على قوتها الذاتية؟
فشلت الثورة في جذب أبناء الطوائف الأخرى، المكونة للنسيج الوطني. صحيح أن أفراداً كثر تعاطفوا مع الثورة، لكن الجسم الأساسي لهذه المكونات إما بقي مؤيداً للنظام أو فضل الصمت، وفي الحالتين كان ذلك خسارة من رصيد الثورة.
أخيراً، فشلت الثورة في تغيير البنى الثقافية في المجتمع السوري، وإن كان هذا أمر يطول الشغل عليه ويحتاج لمجهود وظروف لا تملكها الثورة، التي تئن تحت نار ودخان النظام وحلفائه، إلا أن البنى الثقافية ما لم يتم البدء بتغييرها، فإن لديها القابلية لإعادة إنتاج الديكتاتوريات.
الإستراتيجية التي تحتاجها الثورة اليوم هي أشبه بإستراتيجية الصدمة، طريقة عمل تتخلص من خلالها من كثير من الشوائب والعوالق، التي اندرجت في إطار عملها الثوري، وتجهّز الآليات البديلة، والقادرة على حمل العملية الثورية وإنجاز أهدافها. صحيح أن الثورة تتعرض اليوم لهجمة ميدانية شرسة، لكن واقع الخبرة يقول أن هذا الهجوم آني ولأغراض تفاوضية، وان النظام لم ولن يعود قادراً على إستعادة مواقعه السابقة، وعلى الثورة ألا تلتفت كثيراً لعمليات الكر والفر الراهنة، وتعمل بدل ذلك على تأسيس حالة ثورية قادرة على إنجاز أهدافها بإسقاط النظام.
المستقبل