في نقد مظلومية “الإخوان”/ موسى برهومة
لا تنبئ المواجهات المتواصلة مع جماعة «الإخوان المسلمين» بانبثاق أي ضوء في آخر النفق الطويل يمكنه أن يبعث الأمل بحلّ لهذه المعضلة التي يبدو أنها مرشحة إلى مزيد من التأزم والتعقيد.
وقد كنا حذرنا كثيراً من لجوء العقل السياسي العربي إلى أسهل الحلول، ونعني بها الحلول الأمنية التي زادت من إحساس «الإخوان» بعمق المظلومية، ما جعل صورتهم كضحايـــا تمنحهم الكثيــر مـن التأييد والتضامن، فضلاً عن أن فكر «الإخــوان» قــــائم على ثنائيات ميتافيزيقية لا ترى في العسف إلا امتحاناً، ولا في القيد إلا سواراً، ولا في الموت إلا درباً نحو الشهادة، والفوز بالنعيم الأبدي.
وسط هذه «الطوبى» من الصعب أن يحدث أي اختراق تكون نتيجته تصفية هذا التنظيم أو إفناء عناصره، أو محاصرتهم على نحو لا يقوون فيه على الحركة، وما يمنع هذا الأمر أن فكر «الإخوان» يستمد «قوته» من الانطباعات التدينية السائدة في عموم المجتمعات العربية والإسلامية القائمة على «التدين الشعبي»، بحيث لا يكترث، بل لا يميز متلقي خطاب «الإخوان» بين الدعوة إلى الدين، وبين توظيف تلك الدعوة لأغراض سياسية أو حزبية أو أيديولوجية. وفي ذلك يكمن مأزق كبير ربما يقوّض جهود العقل الأمني العربي.
وعلى رغم ما حاق بـ «إخوان» مصر من هزيمة وتنكيل وشيطنة بسبب أخطائهم السياسية التي ترقى إلى الخطايا، وعلى رغم ما ووجهوا به من معسكر خصومهم من ردع شديد، ومن محاكمات لرموزهم، وقتل لمنتسبيهم وأشياعهم، إلا أن ما يجري في غزة، وما تحققه المقاومة الفلسطينية بقيادة أو مشاركة «حماس» من «انتصارات» ومن تصدٍّ مشرّف لآلة القتل الهمجية الإسرائيلية، ومن استعادة لزمام المبادرة، يجعل «الإخوان» ينبعثون من رمادهم، ويبرزون مجدداً كرقم صعب في المعادلة السياسية العربية من الصعب إحداث أي وفاق وطني بمعزل عن مشاركتهم.
وفي ضوء ذلك، فإن اللجوء إلى الخيارات التفاوضية مع «الإخوان» هو السبيل الأمثل لتفكيك الاحتقانات التي تعصف بدول عربية كثيرة لا تزال تعاني من «عقدة الإخوان» وتود لو أنها تستأصلهم، أو تغفو ذات صباح فتجدهم غرقى في أي بحر أو خليج أو محيط!
العقل البراغماتي يفرض شروطه القاسية، ويقضي بإجراء «احتواء مزدوج» لـ «الإخوان» بحيث يرفع عنهم ذريعة المظلومية، ويوفر لهم العمل السياسي تحت مظلة قوانين الدولة التي لا يمانع «الإخوان»، كما يظن كاتب هذه السطور، لو كانت كانت دولة مدنية. فللـ «الإخوان» عقلهم البراغماتي أيضاً، ولديهم حسابات، ولقد أجروا مراجعات لتجربتهم الصعبة، خصوصاً في مصر. ومن المتوقع أنهم استفادوا من الدرس القاسي، ويسوؤهم أن يبقوا في المعتقلات، وفي مرمى المطاردة، والنبذ، والأبلسة، أو أن يكونوا مضطرين للعمل تحت الأرض، ما يديم التوتر، ويغذي الاحتقان لديهم ولدى خصومهم.
وحتى لا يبدو الكلام نظرياً عن احتواء «الإخوان»، فإن لدينا تجربتين ناجزتين وناجحتين في المغرب وتونس تمكنت فيهما الدولة والمجتمع من إنجاز مصالحة بين الفكر الديني والتطلع المدني، فحدث الوفاق، وتجلت قدرة الإسلاميين على الانخراط في ما يقرّعهم خصومهم بسببه، أي الدخول في لعبة السياسة بمعناها الواسع الذي لا يحتكر الحياة، ولا يفرض عليها إيقاعه الأيديولوجي أو الحزبي. فلماذا لا تتم الاستفادة من هذين الدرسين اللذين يجدان، في شكل أو في آخر، مرجعيات ثرية في التجربة التركية، حيث أفرز التلاقح بين الإسلاميين والعلمانيين ما يمكن تسميته «الإسلام العلماني»، إذ إن ما كان يحدس به حسن حنفي صاحب «الإسلام اليساري» قبل عقود صار ماثلاً، وتمكن معاينته على نحو محايث. ففي عالم الأفكار ليس هناك مطلقات باتة، لا سيما حين يقود البتّ والحسم إلى مآزق تهدد الدولة والمجتمع والسلم الأهلي، وترسم خريطة للتيه لا نهاية لحدودها!
* كاتب وأكاديمي أردني
الحياة