في نقد مقولة «ما بعد الإسلام السياسي»/ حمّود حمّود
إذا كان هناك من يعتقد أنّ ظواهر القرن العشرين الأصولية، بشكلها الكلاسيكي، كانت ردّاً على وقائع الغرب الحداثية، فإن هناك اليوم من يشدد على وفاة هذه الظواهر، وذلك استناداً إلى مقولة تقول إنّ هذه الظواهر فشلت في تحقيق معظم مراميها الأيديولوجية والثيوقراطية في الفضاءات السياسية العامة ضمن العوالم الإسلامية والعربية، وتحديداً الوصول إلى الهدف الأسمى للإسلام السياسي: قيام دولة إسلامية. مثل هذا الفشل الإسلاموي هو الذي قاد معظم هذه الظواهر إلى أنْ تتعلمَن (هكذا) ضمن أطر العمل السياسي والاجتماعي الدنيوي بعيداً من اللهاث وراء «أصول الأصولية»، وهو الأمر الذي سمح بولادة أشكال جديدة من سياسويات إسلاموية انقلبت على أبرشيات عالم الإسلام السياسي الكلاسيكي- إنها الأشكال التي تُدرج ضمن اللافتة الفارغة من مضمونها: «ما بعد الإسلام السياسي» أو حتى «ما بعد الأصولية».
ما يهم ليس تناول الخلف النقدي بما يخص التركيبة البنيوية المتناقضة بذاتها لمثل هذه الاصطلاحات (التي تندرج في النهاية ضمن الألعاب اللغوية «الما بعدية» البهلوانية)، بل المرور سريعاً على ركيزتين نقديتين في نقد الحوامل المتأدلجة التي تقوم عليها مثل هذه التراكيب، والتي تريد إخبارنا عن السكة الديموقراطية التي وُضع عليها الإسلاميون: إيرانيو ما بعد التسعينات، إسلاميو ربيع العرب وما بعده إلخ… هم أفضل الأمثلة التي تُسرد في التدليل على قصة دمقرطة دماء الإسلاميين الجدد.
المفردة الرئيسة التي غالباً ما تُستعمل في الحديث عن «ما بعد الإسلام السياسي» هي «التحوّل» في المسار المسلكي لممثلي الأصولية. بيد أنّ نظرة خاطفة على البعد البارادايمي الواسع، وحتى الأدلوجي، الذي يهيكل الإطار «المرجعي» (قل الثيولوجي، مثلاً)، والذي «منه» تمتح و «إليه» تهدف وتعود المقولة الأصولية، تُنبئ تماماً بعكس ما يريده بعضُ عشاق الإسلاميين الجدد. ليس بالأمر الجديد القول لإنّ الأصولية تحكمها جوهرانيات بنيوية، لولاها لما صح أصلاً إلصاق اصطلاح «الأصولية» بأتباعها. إنّ جوهرانيات مثل: الذهنية المانوية- الثنوية، ولحظة الأصل المقدسة، لحظة الخلاص الطاهرة، والذهنية الإطلاقية، سواء في محمولاتها الثيولوجية أو الثيو-بوليتيكية، والتفكر بالماضي كمستند نظيمي مرجعي، والعقلية التلفيقية بجعل النصوص المقدسة تنطق بما يريده الإسلاميون منها (مقولة الديموقراطية في الإسلام مثلاً الخ…) هي جوهرانيات ما زالت تطبع، أنثروبولوجياً على الأقل، المساحات والأحضان الثقافية الواسعة، الخصبة والغنية بتفريخها لنا إلى اليوم إسلاميين على شاكلة خامنئي أو مرسي أو الغنوشي…، وهي بعض من الشخصيات التي تُركّب زوراً على سكة الديموقراطية.
والحال، إذا كان لا بدّ من حديثٍ يتناول «تحوّلاً» ما في مسالك الإسلاميين، بحيث يسمح لنا الدخول في مرحلة «الما بعد»، فلا بدّ أولاً من شرط نقدي تاريخي شارط يُشرّع هذا الحديث، ألا وهو انقلاب هؤلاء الإسلاميين تاريخياً على هذه الجوهرانيات في النظر إلى العالم، وإلا بقينا ندور في طواحين هوائية وألعاب لغوية، لكنْ لها تأثيرات سلبية جداً على العالم الإسلامي تهدف إلى إيصال الإسلاميين إلى السلطة.
إنّ تفريخة إسلاموية هنا وتفريخة إسلاموية هناك تعلن إنكاراً للعنف والقبول بلعبة الديموقراطية والانخراط بالحياة السياسية…لا تسمحان لنا أبداً بالقول إنهم أصبحوا بين عشية وضحاها «ما بعد إسلاميين»! الأمر يتعلق بعمليات تاريخية طويلة الأمد ورهانات حداثية لم يشتم لاهوت الإسلامويين إلى الآن رائحتها، هذا فضلاً عن أنّ تعميم ظاهرة بأكملها تدعى «الإسلام السياسي»، فقط بسبب تفريختين أو ثلاث في كل العالم الإسلامي، هو خُلف نقدي كبير. لا بل حتى مثل هذه التفريخات (من يقول بما بعد الإسلام السياسي يضع السيد أردوغان على رأس قمة هذه التفريخات) هي عرضة اليوم للانقلاب على أبسط مبادئ الديموقراطية والعلمانية، كما هو حال تركيا «العدالة والتنمية».
الركيزة الثانية في هذه العجالة، هي ما يتعلق بـ «القابلية التاريخية» للأدلوجة الإسلاموية نفسها لعملية «تحوّل تاريخي» ما. هل يمكن أنْ يحدث هذا؟ أنا نفسي أشكك بهذا، لكن كلي أمل لو حدث ذلك. أحد الأسباب لانعدام التحوّل يتمثل بظروف ولادة هذه الأدلوجة تاريخياً والبارادايمات التي طبعت هذه الولادة وبنت ما يسمى «الخطاب الكوني Meisterdiskurs» للإسلام، أقصد تماماً الركائز الثيو-بوليتيكية لعلاقة الإسلام مع الدولة والتاريخ، وهي العلاقة أيضاً التي تقرق الإسلام عن غيره من أديان المشرق (وهذه قصة طويلة). آصف بيات، الباحث الإيراني الأصل، هو من يتزعم مقولة الما بعدية الإسلاموية في العالم الغربي وفي ميادين أبحاث الإسلام السياسي، وهو يستند إلى تجربة الإيرانيين مع السيد خاتمي في التسعينيات وبعض من المتأخونين العرب الإسلاميين اليوم مع «أردوغانهم» (حركة النهضة التونسية والإخوان المصريين، مثلاً). لكن لنقل كلمة: كلّ من أحبهم السيد آصف بيات من هذه الزمرة من الإسلاميين أتوا بعكس كل كلمة كتبها عنهم وتوقعها منهم (لكن أيضاً لا يُفهم تماماً ماذا يجول في رأس بيات حول مفهومه عن الديموقراطية، إذا كان يعتبر تجربة من التف حول خاتمي والمرحلة التي تبعت وفاة الأصولي المؤسس الخميني «تجربة ديموقراطية»)، وتحديداً حينما يكتب بإسهاب عن أنهم أصبحوا «مخلوقات ديموقراطية»! ربيع العرب قدم لنا مثالاً جيداً عن الفجوة التاريخية التي تفصل إسلاميينا عن الديموقراطية الحداثية، وأردوغان في السنتين الأخريين قدم بَعْدُ مثالاً أقوى في هذا الإطار.
حال الأدلوجة الأصولية الإسلامية، كحال غيرها من الأدلوجات الأصولية (المسيحية واليهودية على رأسها)، تتمع بأنها أدلوجة لعوبة، أدلوجة سائلة لا يمكن أنْ تركن على أرض فكرية ثابتة، إنها تُبدّل ألوانها مع تبدل ألوان بيئتها التاريخية. والذي يميزها أكثر، أنها ما إنْ تصل إلى مرادها حتى تعود القهقرى إلى خطابها الكوني والثقافي الذي خرجت من إهابه وإلى جوهرانيات النظائم الفكرية ذاتها، أي النظائم التي شاءت الأقدار أنْ لا تمسسها يُدٌ ما بنقد تاريخي ما. وهذا إشكال مرضي ما زال عقل الإسلام السياسي بعمومه مصاباً به.
الحياة