في هيبة الدولة
علي جازو
إما أن السلطة الحاكمة في دمشق غير واعية لما حدث ويحدث في معظم مدن سوريا وقراها أو أنها لا تراه، ولا تريد أن تراه على حقيقته، والنتيجة المتحصلة عن اللاوعي المرادف للعمى المختار، ليست سوى إعادة سوريا المرئية في حقيقتها الجديدة إلى العتمة اللامرئية في كذبها القديم، فيتطابق الوعي البعثي مع الظلام الأمني، ويعود اللاحق الملتهب إلى السابق الراكد؛ كأن شيئاً لم يمر ولم يحدث. ومن يفكر على هذا النحو لن يجد سوى الظلام يحيق به، عندما ينتصر ضمير المرئي وقوة الحدث على بقايا نتانة المخفي وشناعة السريّ، ويتماثل الوعي العام للشفاء الضروري من خبل خمسين سنة عمياء تخبطت تحت رداء “هيبة الدولة” الرديء.
ثمة كلمة واحدة على لسان السلطة السورية هذه الأيام: الحفاظ على هيبة الدولة. الدولة التي لم نر منها سوى تحويل السلطة، التي يفترض فيها الانبثاق من الشعب لا ضده، إلى عنف محض، من دون أي مسوغ شرعي. هذه السلطة لا تبحث سوى عمن تفرض عليهم هيبتها، أي إرهابها وتوحشها ولا إنسانيتها. والحفاظ على هيبة الدولة في هكذا حال ليس سوى السكوت على القتل ونسيان حقوق الضحايا، والعودة إلى حظيرة الخوف قبل الخامس عشر من آذار الماضي. عندما تتكلم السلطة في سوريا أو يتكلم من يفترض به التحدث باسمها، فإنها تنزلق بسرعة نحو تجهيل الناس بحقيقتها. فحقيقة السلطة شيء خفي سري، لا ينبغي البوح به لأحد، إنه تحت حصانة هيبة الدولة التي لا يجب مسها. هذا جزاء وقح وفظ من جزاءات لعنة التجريد التي وسمت البعث النظري موحِّد ما لا يقبل إلا الفصل وجامع ما لا يجمع إلا بالعنف القسري. فكلمات مصطلحات من قبيل سقف الوطن، أمن المواطن، تكاد تتحول إلى متاهات بوليسية مغلقة، فمن يحدد سقف الوطن هذا، وما درجة سموه واحتقاره لقاع الوطن، وأمن المواطن أين يتبخر ويختفي أمام العنف الحاقد الذي يقابل به “هذا المواطن” الذي لم يجد نفسه يوماً تحت أي سقف من الرعاية الحقيقة. الحقيقة إن السلطة أعلى وأرفع من أن تحدد بمعنى محتمل، يمكن التأكد منه بالتجربة الفعلية. السلطة خفية ومطلقة، إنها من مرتبة إلهية، والإلهي لا يقبل النزول نحو التعريف والحصر والسؤال والمحاسبة. الإلهي هو الذي يرفع الميزان ويخفضه، هو الذي يجرم ويحاسب ويحكم ويقضي. الإلهي لا يقبل أن يرى من خلال فعل أو يختبر عبر تجربة، أو يقاس من خلال مثال، إنه الذي لا يحده شيء، ولا يمنعه شيء، ولا يوازيه شيء. وعلى هذا، على الذي هو مواطن شيء أن يكون تحت رحمة الهيبة اللاشيء. فمن سمات المطلق قدرته على الحلول محل الكائن العادي، حد تحول العادي جزءاً من آلة تعيد المطلق إلى المطلق وتثبته في المخيلة كخيار وحيد وبلا منافس. لهذا ربما غيبت المعارضة عن جلسات الحوار السوري “الوطني” الأخير، أو أنها لم تجد لها مكاناً بين شبيحة البعث. مثل هكذا رفض للحضور أو تغييب أمر منطقي، فلا يمكن لمن حدد له صفة وعملاً وهدفاً أن يتحاور مع من لا يقبل تحديده بصفة ولا تحيينه بهدف أو عمل يفترض به أن ينتهي إلى غاية. غير أن السلطة في سوريا بلا غاية مؤقتة، إنها فوق الغايات المرهونة بزمن وظرف. هي خارج الظرف وخارج موجباته ونهاياته. السلطة في سوريا ليست جزءاً من مجمتع متحول، إنها فوق التحول، بل هي التي تضع للتحول معنى وفحوى واحداً: الحفاظ على هيبة الدولة. لن تتنازل السلطة لتصغي إلى أفكار الناس ومطالبهم، وهي ليست في وارد الحوار، لكن لا بأس إن هي صنعت حواراً مع نفسها ولمصلحتها. من يتحكم في السلطة السورية لا يتحاور، بل يضرب ويقتل ويعتقل من له رأي في أسس الحوار ومبادئه وأهدافه. من غاب عن الحوار هو المحاور الفعلي، التظاهر العلني والرفض العلني هما اللذان يحددان سقف الدولة والوطن، ذلك أنهما من حقل الاختيار لا الفرض، إنهما من طموحات الناس العاديين لا أوامر العسكر المختارين. والدولة التي لا تعكس حقيقة مواطنيها، وطموحاتهم في حياة كريمة لا تستباح فيها الحقوق وتهدر الكرامات، وتداس الوجوه، هذه الدولة هي التي بلا هيبة وبلا كرامة، وبلا حس إنساني وبلا مستقبل. المستقبل للأحرار الذين أعادوا الوعي والحياة إلى سوريا، الذين حولوا الأمل إلى عمل عظيم والشرف إلى معنى حقيقي ملموس، وإن كانت هذه العودة العسيرة على درب قسوة مريعة. من خرج في جمعة حمزة الخطيب، ومن سمع صوت ابراهيم قاشوش وردد أغنيته الأعمق والأطهر من أي صلاة تتلى الآن في سوريا، لن يتراجع. مستقبله في يديه الآن، وفي صوته الشجاع الذي سيبقى في ضمير وقلب كل سوري حر شريف.
المستقبل