في وقف الثقافة العدائية بين السوريين/ نجاتي طيّارة
إذا كان للهدنة في سورية أن تنجح، وتمهد لحل سياسي مطلوب، ويبدو أن تباشيرها واعدة، على الرغم من كل الشكوك والاختلاطات المحيطة بها، فإن هناك هدنة أخرى مطلوبة، لطالما غاب الحديث عنها في خضم الصراع الجاري، وهي الهدنة على المستوى الثقافي النفسي. مستوى الهدنة الأولى يجري في الميدان العسكري أساساً، ويتحدّد بوقف العمليات العدائية، وهو المصطلح البديل عن وقف إطلاق النار، والذي اختاره الاتفاق الأميركي الروسي المعلن. والمسؤولية الأكبر عن تنفيذه تتعلق بالنظام وروسيا وحلفائهما، كما أشار الرئيس أوباما أخيراً، كما أنها مسؤولية الجانب الأميركي أيضاً، وهو الشريك في رعاية الاتفاق وترؤس مجموعة العمل الدولية بشأنه، ثم هي تالياً مسؤولية قوى المعارضة المعتدلة التي وافقت على الاتفاق وهدنته.
أما مستوى الهدنة الثانية التي أشرت إليها، فهي من مسؤولية السوريين وحدهم، وتتعلق بقدرة الديمقراطيين السوريين أساساً على وقف الثقافة العدائية الجارية، أو فلنقل، على وقف ثقافة الكراهية الناشبة بين السوريين. قد يبدو هذا الكلام مفاجئاً لكثيرين، وقد يستنكر بعضهم صدوره في مثل هذا الوقت، لكنني أعتقد أن فتح ملفه ضروري، وخصوصاً اليوم. فمن الجلي أنه لا مكان لدور الديمقراطيين السوريين على مستوى الهدنة الأول، والتي تتعلق باللعبة الدولية وأدوار العسكريين. أما دورهم فممكن، بل هو واجب على مستوى الهدنة الثانية.
وقبل الدخول في التفاصيل، لابد من توضيح أن أبواب الهدنة الثانية لا يمكن أن تفتح، إلا بعد استكمال فتح أبواب الهدنة الأولى، وأعني بذلك ليس وقف العمليات العدائية العسكرية فقط، بل استكمال تنفيذ الجانب الإنساني من الاتفاق، والذي يشمل الإفراج عن سائر المعتقلين، بسبب الصراع، وفك كل أشكال الحصار، والسماح بإدخال المساعدات والمؤن. عندها، يمكن للمفاوضات أن تبدأ، وتفتح الطريق أمام حل سياسي، يهتدي بقرارت جنيف والأمم المتحدة، ويحقق تطلعات السوريين في التغيير.
وبموازاة تقدم هذه العملية فقط، يمكن لنا أو علينا كما أعتقد، أنا وجميع الديمقراطيين السوريين، واجب ومسؤولية القيام بنقد ما سميتها ثقافة الكراهية الناشبة بين السوريين، بتفكيك خطابها، ومراجعة تراثها ومخيالها الجمعي، على هدي ثقافة المواطنة والمساواة وسيادة القانون التي نسعى إليها في سورية المستقبل.
وبدايةً، فلنعترف أن هناك ثقافة كراهية سائدة اليوم عموماً بين السوريين، محورها الأساس بين طائفتي السنة والعلويين، وقد أخذت شكل مخيال جمعي، وفق المفهوم الذي نحته المفكر الراحل (محمد أركون).
هذا المخيال الجمعي، إن استند إلى تراث صراعات فجر الإسلام وانشقاقات الفرق الإسلامية، وحمل بعض تيماتها في بعض الحكايا والرموز والأسماء، وكان يمكن له أن يبقى في إطار ما يشبه الذاكرة والفولكلور، فقد تغذّى بفتاوى فقهية في مرحلة الصراع مع الصليبين، ثم تنشّط بعد انقلاب “البعث” في سورية وسيطرة حافظ الأسد الذي استثمر العصبية الاجتماعية بديلاً عن شرعيته الدستورية المفقودة.
كان هذا المخيال متداخلاً ومتصارعاً مع مخيال المواطنة وثقافتها الناشبة في سورية الحديثة،
“علينا نقد ثقافة الكراهية بين السوريين، بتفكيك خطابها، ومراجعة تراثها ومخيالها الجمعي” ولم يكن ليمنع شراكة العلاقات الاجتماعية الحديثة بصورة حاسمةٍ أو صريحة، ومنها حالات الزواج أو الصداقات العديدة بين أبناء الطائفتين. وصحيح أنه بقي محيطاً بها دوماً، ولم يكن ممكناً التخلص من تأثيراته عليها إلى هذا الحد أو ذاك، لكن كان هناك طموح وأمل لدى الديمقراطيين بتجاوز مخلفاته، وصولاً إلى ثقافة المواطنة ومخيالها، وكانت أكبر الجهود في هذا المجال، هي جهود العاملين من أجل مشروع المجتمع المدني.
لكن، مع انفجار الثورة السورية، وإغلاق النظام أبواب الحل السياسي، ثم لجوئه إلى أقصى درجات العنف والعسف غير المسبوق ضد المتظاهرين المطالبين بالإصلاح والتغيير، كان لا بد من انتعاش ثقافة الكراهية الطائفية، بل وسيطرتها في كلا الجانبين. ففي جهة النظام ومواليه، كان المتظاهرون وأوساطهم مجرد إرهابيين ورعاع ينبغي سحقهم، ودفع الباقين منهم إلى الهجرة خارج البلاد. وبلغة أخرى مسكوت عنها، هم سنة متخلفون ومتعصبون، لا مكان لهم في سورية الحديثة، أو في سورية المفيدة حسب تعبير متأخر. وصارت مدن ومناطق معينة في سورية هوية عدوة، لا يمكن التعامل مع أي فرد من أبنائها إلا بالقتل أو الاعتقال أو التهجير. فالسني عدو أولاً، ويمكن البحث تالياً عن استثناءات في مجاله، لكنه سيبقى من درجة ثانية. وفي الجهة الأخرى، أصبح العلويون طائفة مكروهة كلياً، ولا يمكن الثقة بأي فرد منها، وإذا كان هناك منشقون عنها، فأعدادهم لا تتجاوز أصابع اليد. وبطبيعة الحال، لابد أن تسود هنا قاعدة الاستثناء الطائفية السابقة نفسها.
وإذا كان عنف النظام وحلفائه ضد جمهور المعارضة ووسطها الاجتماعي هو المسؤول الأول عن انتعاش ثقافة الكراهية ونموها الكاسح، فقد كان لا بد لرد الفعل الدفاعي من أن يحتمي بخطاب الكراهية لدى جمهور الطائفتين، وساعد على امتداده وتغذيته الانتشار الواسع لوسائل الاتصال الحديثة، وبينها صفحات التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية.
اليوم، علينا أن نطالب الجميع بالتوقف عن استخدام خطاب الكراهية الطائفية هذا، واستبداله بخطاب العدالة الانتقالية التي لا مناص من أن يكون أول خطواتها تحقيق التغيير السياسي المنشود الذي يبدأ برحيل الأسد. ثم متابعة خطواتها في المحاسبة، والأخذ بمبدأ المسؤولية الفردية فقط عن الجرائم المرتكبة من كل الأطراف، والتسامح، بدرجةٍ أو أخرى، مع الصامتين أو المخطئين من الدرجة الثانية، بحكم موقعهم، أو وظيفتهم، أو خوفهم ، وصولاً إلى رد المظالم وتكريم الشهداء وإعادة الاعتبار للضحايا.
عجزت المعارضة السورية سابقاً عن تحقيق مشروع قادر على تحقيق المصالحة الوطنية، وهي تواجه اليوم مجدداً تحديات القيام به، ولعل لها في نجاح قيادة نيلسون مانديلا للمصالحة التاريخية بين السود والبيض في جنوب إفريقيا خير مثال، وهي التي تطلبت أن يكون العمل على الخروج من الثقافة العدائية واحداً من مقدماتها اللازمة.
العربي الجديد