فِكْــر التَّبَعِيَــة والاسْتِــلاب
صلاح بوسريف
‘وجَعَلْنَا اللَّيْلَ والنَّهَارَ آيَتَيْنِ، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ‘ [الإسراء 12]
النُّهُوض، مشروط بتجديد الفكر، وبتجديد النظر. لا يمكن لأمة تعيش على الماضي، أو تَعْتَبِرُ الماضي، هو حاضرها ومستقبلها، أن تكون جديرةً بأي نُهُوض، أو تقَدُّم، مهما كانت المظاهر الحديثة التي تَسْتَجْلِبُها من الآخر، المتقدم، الذي قطع أشواطاً في العمران، بتعبير ابن خلدون، وقطع أشواطاً كبيرةً في التربية والتعليم، وفي تسهيل صيرورة العلم والمعرفة، والقُدرة على التَّخْيِيل، والابتكار، وبناء الإنسان، بما يَتَّسِمُ به من فعلٍ، وإرادةٍ، وبما يَبتكره من قِيَم جديدة، لا مكان فيها للتبعية والاستلاب.
مشكلتنا، اليوم، في الثقافة العربية المعاصرة، هي مشكلة تَبَعِيَةٍ واستلاب، بالدرجة الأولى. فنحن لم نخرج من هيمنة الآخر، الذي ليس بالضرورة هو الغرب، فهذا الآخر الذي يَنْخُرُ ذاتنا، متعدد، كثير، له أكثر من وجه، وله أكثر من اسم، وصفة. فهو، إجمالاً، كل من يكون فوق إرادتنا، أو من يكبح قدرتنا على التساؤل والابتكار، وينظر للإنسان باعتباره أداةً وتابعاً، وُجِدَ، فقط، ليكون تعبيراً عن غيره، ووجُوداً بغيره، لا تعبيراً عن نفسه، ووجوداً بذاته. وهنا، يكون الدِّين، هو أحد هذه الأوجه التي تكبح قُدْرَةَ الإنسان على الوجود، باعتبار ما يفعله، وما يقترحه من أفكار، وبما لديه من ملاحظاتٍ، وانتقادات، وما يشغله من أسئله، لا يمكن حصر إجاباتها، في ما يقترحه الدين نفسه، أو بما هو قَناعات، عند من اختاروا الدِّين حَلاًّ في مقابل الدنيا، أو اختاروا ‘الشريعةَ’ في مواجهة ‘الحقيقة’.
الدِّين، بالصورة التي هو عليها اليوم، أو بما فيه من شُروح وتأويلاتٍ، تضع الماضي، وفكر الماضي، كيَقِين، وحَلٍّ لِما طرأ من مشكلاتٍ، أو تعتبر الدِّينَ، بالمنظور السلفي الماضوي، الذي يتعارض مع العمران والتقدم، هو الحَلّ، أصبح عائقاً ثقافياً، في وجه كل تفكير ناهِضٍ، لأنَّ الإنسانَ فيه، لا يملك من نفسه شيئاً، وهو عاجز، تابع! حين ‘يخرج’ عن إرادة ‘الخالق’، الذي يُدَبِّر شؤونه، ويُدير خَلْقَه، يصير مارقاً، أو مُنافِساً، لهذه الإرادة المتعالية، في ما يُقْدِم عليه من ابتكار، ما دام الجواب عن كل المُعْضِلات، مهما كان شأنُها، موجود حتى قبل أن يوجد هذا الإنسان نفسه!
الغرب، هذا الآخر، الذي هو بين هذه الأوجه التي تأكل إرادتنا ورغبتنا في الوجود، دون قيد ولا شرط، حين أدرك ما للِدِّين، في فهمه، وتأويله البَشَرِيَيْن، وفي صورته التي آلَ إليها، على يَدِ اللاهوتيين، من مختلف المِلَل والنِّحَل، قطع مع الدِّين، ووضعه في السياق الإيماني، التَّعَبِّديّ الذي يعني الفرد، في علاقته بالله، ليُبْعِد بذلك الكنيسة عن المدينة، وليفصل بينهما، ويُؤكِّد وعلى رغبة وإرادة الإنسان في أن يكون كائناً كامِلَ الإرادة، وكامِل الوجود، لا آلةً يحكمها الغيب والمجهول.
ليست العلمانية، بهذا المعنى، سوى تعبير عن تحرير المدينة من استبداد وقَهْر الكنيسة، ومن استعباد الدِّين لفكر الإنسان ولحريته، ورغبته في تدبير الصيرورة، وتأجيجها. وهي، أيضاً، كبح لهيمنة الدِّين على السياسة، وعلى حياة الناس، أو على تدبير الإنسان للشأن العام، ولشأن المدينة.
الذين نظروا للعلمانية باعتبارها كُفْراً وخروجاً على الدين، فهم كانوا ينظرون للدين، باعتباره سماءً تعلو على الأرض، وأن الأرض، هي رهينة في يَدِ السماء، لا شيء يجوز دون أن يكون هابطاً من فوق، وكل ما يخرج من الأرض، فهو شِرْك، أو رغبة في اقتسام الوجود، مع الله، أو حَدّ من تعاليه.
كل هذه التهويمات الميتافيزيقية، الغيبية، المُتعالية، لا دخْل للعلمانية بها، ولا تعني العقل في شيء، فالعقل لا يتجاهل الدِّين، لا ينفيه، فهو يحرص على معرفته، وعلى اعتباره حقيقة لا يمكن تجاوزها، لكن ليس برؤية من يخرجون بالدِّين عن سياقة، ويُحَوِّلُونَه إلى عَدَوٍّ للإنسان، أو لفكر وإرادة الإنسان، أو يسعون بالأحرى، لاستعماله، في غير ما جاء من أجله.
تحرير الفكر من التبعية والاستلاب، هو ما يعمل فكر الحداثة، بما هو نقد للحداثة ذاتها، ونقد للغرب، ولمركزية الغرب، وهيمنته، ولتعبيراته الميتافيزيقية المختلفة، وللفكر اللاهوتي الماضوي، ولثقافة الاستتباع والتنميط، على تكريسه في ثقافة الإنسان العربي المعاصر، وفي عقله، ووجدانه، في سلوكاته، وما يعمل على ترسيخه من قِيَم، تُسايِر العصر، وتكون جزءاً من صيرورته، وعمرانه .
فالنهضة الحديثة، التي طالما فشلنا في تأجيجها، ظلت أسيرةَ هذين الزوجين، باعتبارهما بين الكوابح التي كانت تحبس عنَّا المعنى الحقيقي للعمران، وتخرج بالإنسان من المعنى الذي يحمله، لتضعه في سياق غَيْبٍ اسْتِلابيّ، قَهْرِيّ، والماضي الذي نختزله عادةً في زمان، ومكان مُحَدَّدَيْن، دون تفكيرهما، ودون مراجعة التأسيسات التي قاما عليها، أو النظام المعرفي الذي يتحكم فيهما، ويقودهما، دون وعيٍ أو إدراكٍ مِنّا، في أغلب الأحيان.
ما كان قام به بعض رواد الفكر الحديث، من كُتَّاب ومفكرين، ومبدعين، في مختلف مجالات المعرفة والإبداع، من نَبْشٍ وحَفْرٍ، في تُرَب هذا الماضي، وما دعَوْا إليه من تجديدٍ في الفكر والنظر، وما يمكن اعتباره تقدماً، في التفكير، قياساً بما كانت عليه الأمور من قبل، أصبح اليوم في مَهَبِّ الريح، كون الفكر الذي انتشر، وأصبح يقود فكرنا وثقافتنا، هو هذا الفكر اللاهوتي الماضوي، بما فيه من غيب، ورفض للعقل والخيال، ومن رفض للنهوض.
ما زال نفس النظام، هو ما يَنْخُر ذواتنا، ويأكلها، ويَسْتَشْرِي فيها. والواقع، اليوم، يفضح بوضوح، ودون مزايدات، هذا النظام السرطاني، الذي يمنع الانشراح، ويعود بنا إلى وراء الوراء، كما لو أن لا شيءَ حدث منذ القرن الثالث، إلى اليوم، أو كما لو أننا كُنَّا ننام في كهف عميق، لا تدخل إليه الشمس، والإنــســـان فيه استحال إلى مجرد حَشَرة، عليها أن تتعايش مع هذا الظلام الذي لا يفتأ يحجب النهارَ الذي في الخارج.
لا نتقدم خطوة إلى الأمام، إلاَّ لنعود خطوات إلى الوراء. حِبَال مُحْكَمَة تَلْتَفُّ حولنا، وتَشُدُّنا إلى الوراء، تشدنا إلى الظلام، وإلى فكر التأويل المُجْحِف في تأويله، وفي استنكار حق الإنسان في الوجود بذاته. ما يدعونا له هذا الفكر السلفي الماضوي، هو البقاء حيث نحن، لا نَهَار يَعْقُب الليلَ، لَيْلٌ واحد يتعاقب علينا، والشمس لا مكان لها في حياتنا، وفي فكرنا، وفي ثقافتنا، فنحن أُمَّة لا تفتح باباً، إلاَّ لتجد نفسَها في مواجهة أبواب أخرى، أكثر سُمْكاً، وصلابةً، ومتانةً من سابقها، ولا نوافذ في الغرفة التي نقيم فيها، أو لا شقوق في هذا الكهف الذي هو الغطاء الذي يمنع عنَّا حتى السماء نفسها.
القدس العربي