قبل عشاء سوريا الاخير/ لما الخضراء – كمال جمال بك
رياح الموت الأصفر التي قصفت الأعناق الطريَّة في الغوطة الشرقية, لم تعصف برؤوس المجتمعين الكبار تحت سقف مقر قمَّة العشرين في سان بطرسبرغ , ولم تخلط أوراق عشائهم على طاولة تمدَّدت فوقها سوريا , طَبَقاً مشويَّا في قِدْر دولي , على نار إقليمية حامية لأشهر طويلة .. وإذا كان ثمَّة ما عصف هناك , فهو جنون تنازع الكبار, للسيطرة على عالم صغير! ..
لكنَّ هذا الجنون المكثَّف الذي غلَّف أحدث نسخ الحرب الباردة في العصر الحديث بشريط سوري, انعكس على هيئة لعبة ” لي الأذرع ” بين روسيا وأميريكا , فتردَّدت أصداء تكسير العظام , لا بين الغريمين , إنَّما على بعد آلاف الكيلومترات , في بلد ما زال لحمه يحترق على صفيح ساخن ..
وما دامت بوصلة الحرب لا تؤشِّر بحال من الأحوال نحو موسكو أو واشنطن , بقدر ما تدفع الزعيمين ” افتراضيا ” , إلى تبادل لكمات فيسبوكية وتويترية جريئة من الحذف والحذف المضاد, وما دامت آهات الوجع سوريَّة بامتياز , فقد بقيت فرص تلاقي أيدي الخصمين الكبيرين ممكنة بمصافحة حارة , تلاها لقاء تمَّ التحضير له ليبدو كأنَّما أتى بالمصادفة رغم تمنُّع الجانبين … وعند عتبة الوثبة الأخيرة للانقضاض فوق جسد الغنيمة, أفسح بوتين وأوباما في الزمن عشرين دقيقة لحوار الأجندات المتضاربة , مثلما أفسحا في البحر مجالاً أمام دبلوماسية خشنة عنوانها العسكري ” ازدحام البوارج قبالة رمال شرق المتوسط “..
وبين الافتتاح الرسمي للقمة وختامها , ظلَّت سوريا وجبة عشاء , معلَّقة بحبال الانتظار بين أفواه ” الكبار المتجادلين ” , تحت سقف ضرورة تبادل ” وجهات النظر ” , لاضرورات ” التوصُّل لاتفاق ” , فترسَّخت تقاليد انقسام عادات قادة العالم في تقسيم الوجبة السورية , بين نسر أمريكي يريد ابتلاعها ساخنة على طريقٍ عسكري اختبره في ” كوسوفو 2 “, وبين دبٍّ روسي يفضِّل تبريدها في طريقٍ جرَّبه لتقوده إلى” جنيف 2 “..
وفاحت روائح النفور بين الأجندتين , في قاعة المؤتمرات الصحفية التي أغلقت باب قمَّة ” العشرين ” على انقسام دولي جديد , أبقى الملف السوري في حالة تعادل بانتظار ركلات الترجيح التي تحطُّ كُراتُها دوماً فوق رؤوس السوريين..
وفي بيان بوتين الختامي المكفهر, ظلَّت سوريا كلمة مسكوتاً عنها ,غصَّ بها حلق الرئيس الروسي الذي تشاغل بالشأن الاقتصادي الدولي , إلى أن رشقه بها سؤال صحفي , فتلقَّفها كأنَّما باغتته , وصار يسوق الكلام بلا دليل- مُصدِّراً رواية النظام السوري – عن مسلحين استخدموا الكيماوي , ليوسِّعوا الطريق أمام ضربة عسكرية أمريكية , فبدا سيد الكرملين أقرب ما يكون إلى محلل سياسي منه إلى رئيس يمتلك الوقائع والحقائق والتفاصيل.. حتى خلص إلى إخبار الجميع , بما يعرفه الجميع , عن أنَّ مجتمع العشرين ظلَّ على تعادل غير مرجَّح , بعدما تناصف التوجُّه نحو الوضع السوري , لجهة التبريد أو التسخين..
أما أوباما الذي جعل العالم يقف على خيط مشدود , بانتظار التصويت داخل الكونجرس في التاسع من أيلول – في خطوة لم يكن هو ذاته مجبراً على قطعها – فقد أظهر في نبرته بعد انتهاء قمة العشرين , إصرارا على التقاط كُبَّة الصوف السورية المشتبكة .. ولاح من وراء تسرُّعه في الامساك بها , خيط إسرائيلي نَسَلهُ قبل غيره لتبرير الضربة ومعاقبة نظام الأسد على استخدام الكيماوي ضدَّ شعبه , حين تساهى الرئيس الأمريكي عمَّا حلَّ بأهل الدار , واستهلَّ ضرورات معاقبة الأسد , بالحرص على أمن ” الجار” !.. فبدا رئيسا ديمقراطيا, مصاباً بالعرج نحو تحويل حلم خصومه الجمهوريين إلى حقيقة ..
في قمَّة واحدة جمعت عشرين دولة , جرت طقوس الانقسام الدولي في مهرجان سياسي اقتصادي , فضيَّعت معالم أيِّ حلٍّ ممكن في متاهات الطريق المسدود, وأعادت عيون العالم لتُطلَّ على المشهد السوري من نافذتين متباعدتين , كأنَّما تراقبان عبر مصفاتين مختلفتين, ما يجري في دولتين تعيشان وقائع مختلفة ومتنافرة بالكامل ..
على مدى يومين تحوَّل الحدث السوري إلى خلفية مُتمِّمة للمشهد الدولي , بينما تركَّزت الكاميرات الإعلامية في قمَّة العشرين على عشاء بارد وربَّما كان الأخير , قبل أن يضرب المنطقة زلزال متوسِّع يُمَكِّن موسكو وواشنطن من خوض جولة جديدة من صراعهما التاريخي , لكن في سَمْتٍ ثالث بعيد في الجغرافيا عن العاصمتين ..
وتستمر اللعبة منذ عامين, فلا يفوز بوتين , ولا أوباما ينتصر.. وكأنَّ المطلوب الدولي, بقاء التعادل إلى نهاية شوط تدمير الساحة السورية , وفي كفَّتي الميزان , يتأرجح الخيار الدولي ” المُصدَّر إجباريا ” إلى سوريا على رأسين , من دون أيِّ حساب لمصير السوريين الخاسرين من لعبة تتنافس على البطولة فيها, مصالح الأحلاف لكلٍّ من أمريكا وروسيا …
وفي اللحطة الراهنة , ظلَّ الميزان يتأرجح على خيارين دوليين بلا ثالث , فإمَّا أن يُصفِّق السوريون لضربة هوليودية محدودة , ليس في بنك أهدافها إلا خمسين موقعاً , أو أن يدفعوا بالعربة التفاوضية المربوطة إلى حصان روسي ميت منذ عامين , نحو مآلات حلٍّ سياسي مستحيل..
ومع غياب خطة عابرة للقارات تحت سقف الشرعية الدولية المغيَّبة وراء تضارب المصالح المزمن , يتسابق الجميع ليبيع الشعب السوري عشاءه الأخير, ويعرض عليه الخيار بين موتين , أحدهما راهن.. والآخر قادم ..
ووسط هذا يقف الشعب السوري الذي خرج مطالباً بسُكَّرِ حريَّته , حائراً أمام خبز يعرضه عليه هؤلاء بوفرة , على أن لا يقسم صحيحه , ولا يأكل من مقسومه .. ومن بعد هذا , يُترك له الخيار كاملاً .. ليأكل حتى يموت شبعا !! ..