قتال الأهل وقتلهم أهوَن من التنحي
عبدالوهاب بدرخان *
كانت المعضلة المربكة لأعضاء قمة الدول الثماني أنها تواجه، في حماستها لـ «الربيع العربي» واستعدادها للإغداق عليه ببلايين الدولارات، سيناريوات شبه جاهزة لحروب أهلية. فبعدما أمضت واشنطن ومعظم عواصم الغرب الشهرين الأوّلين من السنة في تنقيح يومي لمواقفها وتعاملها مع الانتفاضات الشعبية، بين اندفاع وفرملة، ها هي تنخرط في التمرين ذاته لبلورة أدائها ازاء تصاعد احتمالات القتال الأهلي. هنا، أيضاً، توجب التعامل بأسلوب مختلف مع كل حال على حدة.
وحدها روسيا لا تبدو مبالية بما يحصل، حتى أنها غير مهتمة بأن تكون على خطأ أو صواب. ذلك أنها غير معنية بربيع أو خريف عربي، فلكلٍ الفصول التي تريحه، وهي تعرف مسبقاً أنها آخر من يحاضر في الحريات أو الديموقراطية. لذلك فهي مستعدة فقط لانتهاز أي فرصة تمكّنها من اقتناص أي مكسب أو مصلحة، فسلّة المقايضات حاضرة دائماً، ويمكنها مثلاً أن تستدرج تراجعاً أو تأجيلاً ما في المنظومة الصاروخية في اوروبا لقاء اعلانها أن الرئيس الليبي لم يعد متمتعاً بالشرعية، وليس مستحيلاً أن تقدم سكوتها أو حتى دعمها لإدانة مجلس الأمن استخدام القوة المفرطة وقتل المدنيين في سورية متى توافر لـ «الشركاء» الغربيين إمكان اغرائها، ولكل موقف ثمنه. في المقابل، لا تختزل المسألة غربياً بطموحات الشعوب وإنما تتعلق طبعاً برزم المصالح التي ستترتب على أي تغيير. وهذا ما يفسر سباق الدول الكبرى وتهافت الدول الصغرى.
الأكيد أن موسكو تعرف أكثر من سواها طبيعة الأنظمة التي تكافح حالياً للحفاظ على بقائها، إذ إنها ترعرعت في مدارسها الأمنية ثم اختطّ كل منها منهجه الخاص. وعلى افتراض أن هذه «المدارس» تكيّفت مع الوضع الروسي الجديد، إلا أن أجواء الخوف التي لا تزال تشيعها وردود فعلها على بعض التحديات في الداخل أو في الشيشان وسواها من الدويلات التابعة سابقاً ولاحقاً، تشير الى أن النهج لم يتغيّر كلياً.
وعلى رغم أن الدول الغربية لا تجهل أبداً ماهية الديكتاتوريات، فهي صنعت بعضاً منها وتعاملت وحمت بعضاً آخر، إلا أنها تنطلق من فرضية قوامها أنه طالما استطاع أي نظام إدامة صمت الشعب وخوفه وتغاضيه عن حقوقه، فإنها تكتفي بإبداء نصائح وملاحظات بين حين وآخر، أما اذا علت الصرخات وارتفعت المطالبات بالحرية وراح الشعب يدفع الدم ثمناً لمواقفه، فهذا يعني أن ثمة فرصة للتغيير، خصوصاً حيثما يكون النظام أطال المكوث من دون أي مشروعية.
في أي حال، لا يمكن تداخل المصالح بالمواقف والمبادرات المبدئية أن يحجب جانب الحق في تحرك الشعوب ولا حقيقة أن نهاية الصمت والخوف أنهت أيضاً فاعلية القوة التي احتكرتها الأنظمة. لكن المذهل أن هذه لم تتردد في الإقدام على ما توعدت به أو حذّرت منه، أي الذهاب الى حروب أهلية. فقتل الأهل وقتالهم أهون من الرضوخ الطوعي لمشيئتهم. ففي ليبيا انفضح الانفصام الوطني منذ اللحظة الأولى، وعلى رغم أن الدول الغربية مضت الى أقصى ما تستطيعه بلا تدخل عسكري برّي على الأرض، إلا أن منطق تدخل كهذا فرض نفسه، أقلّه لأنها تستعجل نهاية الأزمة، وكذلك لأن «كتائب القذافي» استشرست في بعض المراحل ولا تزال تفرض تأهباً ووضعاً مقلقاً حتى في مناطق شرقية بعيدة من خطوط إمدادها. وإذ يشهد الوضع الميداني جموداً في انتظار تجهيز قوات المعارضة، فإن العقيد الليبي حصل على «حربـ»ه من دون أن تصبح «أهلية» كما أرادها، ليحصل بالتالي على «ليبيا»ه الغربية وينال معارضوه «ليبيا»هم الشرقية. أكثر ما بات يتمناه الآن هو الخروج «مع ضمانات» له وللحاشية، بعدما تأكد من سقوط خيار الخروج بـ «اتفاق سياسي».
في اليمن استطاع النظام أخيراً أن يجري تجربة أولى لافتعال حرب أهلية قابلة للتوسع. وعلى رغم أن قياسه لقدراته جاء ايجابياً مع استخدام القوة الجوية، إلا أنه لم يتمكن من جعلها حرباً بين كبرى القبائل، حاشد وبكيل، فيحتفظ هو بدور التدخل «الشرعي» الحاسم والمرجح. وحين اصطدم تهوره بحكمة القبائل لم يبقَ له سوى اللجوء الى خدمات تنظيم «القاعدة»، سواء بعلمها أو بامتطائها، لإقناع «الشركاء» الخارجيين بأنهم مخيّرون بين الفوضى وبين طيّ مطالبة الرئيس بالتنحي. وهنا يبدو ابتزاز الخارج والداخل، اذا كان يطيل فعلاً عمر النظام، أهون من تصور الرئيس لذاته في منفاه محروماً من السلطة.
أما في سورية فلا يزال يُنظر الى النظام على أنه ضمان لـ «الوحدة الوطنية»، لكن بماذا تُوصف هجمة آلة القتل على الناس؟ فهل هي أقل أو أهون من حرب أهلية؟ الواقع أن كل الادبيات السياسية في استكناه النظام تلاشت، قديمها مثل راهنها، ولن تبقى بعد الآن سوى صورة مفجعة لطفل اسمه حمزة الخطيب. ولمَ التوحش على طفل اذا كانت دولٌ كبرى تقول إن هذا النظام مستعصِ على التنحية أو الإسقاط أو الانهيار. الأرجح أن ما يخشاه فعلاً هو هذا الطفل، لأنه يجسد مستقبلاً لا يريد النظام أن يتصوره. وليس معروفاً بعد اذا كانت «الاصلاحات» الموعودة ستستطيع أن ترسم مستقبلاً يمكن أن يتجاوز المصير الذي لقيه حمزة، أو اذا كان «الحوار الوطني» الموعود يمكن أن يشمل شخصاً «يجرؤ» على القول: كلنا حمزة، فمن يعيد الى حمزة كرامته ولو بعد هذا الموت المريع؟
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة