قتلة تجب معاقبتهم/ ميشيل كيلو
لم يترك النظام الأسدي وسيلة ضغط وإفساد إلا وجرّبها من أجل إرغام مسيحيي سورية على حمل السلاح ضد شعبهم. تواصل ضباط مخابرات الأسد مع بعض رجال الدين المسيحي العملاء لهم، ليكلفوهم بتجنيد شبّان مسيحيين عاطلين من العمل مقابل رواتب مغرية، ويقنعوا الكنيسة بوجود تهديد إرهابي لها، يمكن أن يصل في أي وقت إلى بيوت رعاياها. ولجعل جهدهم مقنعا، وضعت المخابرات ملصقاتٍ مرعبة على جدران الكنائس والأحياء التي يغلب عليها الطابع المسيحي تسمي “الجهات الإرهابية” التي ستستهدفها، وأسماء من سينسفون الكنائس، وأرسلت حرّاسا مسلحين، ليقفوا قرب أبوابها، ويثيروا قدرا من الذعر يدفع المسيحيين إلى الالتحاق بمليشيات السلطة، ثم أعلنوا أنهم لن يتمكّنوا من القيام بحماية المسيحيين، إن بقي شبانهم رافضين للسلاح. وأخيرا، تواصل المخابراتيون مع أحزابٍ ينضوي فيها مسيحيون، كالحزب القومي السوري الاجتماعي، وتواصلوا مع أتباعها وضغطوا عليهم، وأغروهم بحمل السلاح بذريعة حماية مناطقهم وأهليهم، وعندما وجدوا أن رد فعلهم ليس إيجابيا بما يكفي، انتقلوا إلى وضعهم أمام الأمر الواقع، فاغتالوا مسيحيين أو أخفوهم وعزوا مقتلهم واختفاءهم إلى المسلمين، أو فبركوا أكاذيب عن فتياتٍ اغتصبهن مسلمو الأحياء المجاورة لهم، أو اختطفوا سيدات مسنات وكبار سن يحظون باهتمام اجتماعي خاص، وألقوا أخيرا السلاح بصور عشوائية في شوارع الأحياء المسيحية، أو طرقوا أبواب منازلها، وهدّدوا شبانها بسوقهم إلى الجيش، إذا لم يقبلوا الدفاع عن أحيائهم. وبعد حين، وجد من قبلوا التطوع أنفسهم في دير الزور أو حلب أو القلمون أو الساحل… إلخ مرتزقة يقتلون الأبرياء، كغيرهم من مرتزقة لبنان والعراق وأفغانستان وبنغلادش… إلخ. لئن كان القسم الأكبر من الشباب المسيحي ما زال خارج مليشيات النظام، فإن بعض مرتزقتهم ارتكبوا جرائم كلفهم بارتكابها النظام، بغرض توريط المسيحيين، ووضعهم أمام خيار الانخراط الإكراهي في تنظيماته، عبر إغلاق جميع دروب النجاة في وجوههم، وترك خيار وحيد أمامهم، هو حمل السلاح، بحجة أنه لم يبق لديهم غيره لرد ما يُحدق بهم من أخطار داهمة.
وسط هذه السياسات الإجرامية، المنظمة على أعلى مستوى وإلى أبعد حد، والنابعة من تصورٍ أرسى السلطة على تكويناتٍ ما قبل مجتمعية/ ما دون وطنية هي الطوائف، التي عمل دوما لإقامة تحالف يجمعها ضد المجتمع عموما، وأغلبيته خصوصا التي يشك في قدرته على كسب ولائها، واختار مواجهتها سياسة وحيدة تجاهها. ومع أن النظام ترجم سياساته منذ أعوام إلى وضعٍ استهدف إلحاق الطوائف الأخرى به، فإن تصميمه على تحويل ثورة الحرية إلى حرب طائفية جعله يمارس ضغوطا يومية على الطوائف عامة، والمسيحيين خاصة، لاعتقاده أن انخراطهم في الحرب سيفضي إلى ردود أفعالٍ إسلامية عنيفة ضدهم، إن لم تحدث قام هو بها، ستستفز الرأي العام المسيحي في دول الغرب، وستدفع به إلى معاداة الثورة، وتصديق أكاذيب الأسدية حول الحدث السوري، باعتباره إرهابا، وليس ثورة حرية ضد استبداده وظلمه، مع ما سيترتب على ذلك من عائد داخلي وخارجي إيجابي عليه. في سياق هذه الخطة، فتك النظام بمسيحيي مناطق عديدة، واستغل قتلهم علي يديْ أجهزته لإقناع الغرب بأنه “حامي الأقليات” عامة، و”أتباعه” المسيحيين منها بصورة خاصة.
واليوم، بلغ الإجرام ببعض مسيحيي سورية والعراق حدا جعل أحدهم ينذر مواطنيه المسلمين، الذين طردتهم مليشيا الحشد الشيعي من بيوتهم، فلجأوا مكرهين إلى منازل قرى مسيحية مهجورة، بضرورة مغادرتها خلال ثلاثة أيام، وإلا أخرجتهم مليشياه التابعة للحشد الشيعي منها بالقوة. ومع أن جهات كنسية عراقية دانت سلوكه، واعتبرته فرديا لا يمثل غير صاحبه، فإن وجود مسيحيي المشرق يحتم إدانتهم القتل على الهوية، وبرفض السلاح والاشتراك في القتل، وفتح بيوتهم للمشرّدين والمهجرين من مواطناتهم ومواطنيهم، وتقاسم رغيف الخبز وجرعة الماء معهم، اقتناعا منهم بأن مصير المسيحيين ليس غير جزءٍ من بقية مواطنيهم، وأن مأساتهم فرع من مأساة المسلمين، إخوتهم في الوطن والحضارة والثقافة واللغة والتاريخ والآمال. وعلى الكنائس السورية والعراقية إدانة أي خروج على موقفها هذا، ومطالبة المسلحين من المسيحيين برد السلاح إلى النظامين الطائفيين، وإلا طالبت رعاياها بفرض حجر اجتماعي وديني عليهم.
بلغ السيل الزبى، وصار من المحتم أخذ موقف يقطع مع سياستي النظامين ضد شعبيهما، لأن من الخير للمسيحيين أن يضحوا، مع غيرهم، من أجل حرية مواطنيهم ووطنهم، بدل الغرق مع هذين النظامين في مستنقعات الوحشية المذهبية والاختناق إنسانيا ووطنيا بيد الإجرام!
العربي الجديد