قتلى النافذة السرّية/ ريبر يوسف
لم تكن الأحداث اعتباطية، كل ما كان يُعرَض على المحطة السورية – الأرضية، كنّا نحن أطفالَ الحي الصغير نتلقّنُهُ خارج سياق فكرة الدولة/ الرئيس، في إنتاجه وبثه لنا نحن الشعبَ الذي كان يجلس أمام ذلك الصندوق السحري؛ نتراشق فيما بيننا باستغرابات كبيرة مثل كراتٍ لامرئية. صندوق صغير موضوع في زاوية الغرفة؛ ليتسنى لجميع أفراد الأسرة مشاهدته بوضوح ـ كانت الزوايا أكثر الأمكنة حدّة، كان ذلك الصندوق في مثابة نافذة الزنزانة العالية والمسيَّجة، يحدث هذا إذا ما تتبّعنا عوالم نفسية للحدث ذاك، مثلاً: الشبَاك اللامرئية على التلفاز كانت رمزاً للحد الفاصل الذي يفصلنا عن سحر ما يحدث في دمشق، حيث مقر البث العام ـ وكنّا نظن أن لا علاقة لنا بأيّ شيء، بل لم نكن نملك القدرة على تفكيك بعض الأسئلة المعقدة التي كانت تنتابنا نحن المشاهدين/ الشعب، كان التلفاز رمزاً للدولة والعاصمة، ولم يكن في مقدورنا الولوج فيه، أي ما كان من حبل موثَق ما بيننا وبين الدولة فنتبادل خلاله دلْوَ الانتماء إلى أيّ شيء وافد منهم، كل هذه المعادلات كانت في مثابة شباك لامرئية موضوعة أمام شاشة التلفاز التي كانت تنقل لنا ما يريد النظام أن نراه وحسب. أما كون الصندوق ذاك نافذة زنزانة فهذا عائد، لا محال، إلى حالة الانغلاق الكلي الذي شهدناه في زمن ما، إلى الحد الذي كنا نتجالس أمام التلفاز منفصلين نفسياً عن بعض جدران البيت المرئية وعن أخرى لامرئية؛ كانت في نفوسنا، ما الذي كان يحدث حقاً؟ أجل، كان التلفاز هو نافذة زنزانتنا الوحيدة، أتذكّر مرات عديدة كم كنتُ أشاهد، في مقدمة أحد البرامج، رجالاً على أحصنة، يعبرون الصحراء بسرعة كبيرة جداً، بأيديهم بنادقُ، مرتدين ثياباً بيضاً، كان المشهد ذاك كأصوات عصافير كنت أسمعها عبر نافذة الزنزانة تلك، أي كان المشهد ذاك مثل معضلة، أربّي خلالها قدرتي على ترقُّبِ الغدِ، كنت أعيش ذاك المعتقَد السحري بأني سأعرف ذات يوم ما هو ذاك المشهد من هم هؤلاء الرجال، وأين هم، ولماذا تعبر أحصنتهم الصحراء تلك، لذلك، الآن أتابع فلم (عمر المختار) مراراً دونما ملل، رميت حبلاً، موثقاً إلى نفسي، في بئرٍ، واسترقت السمع إلى رنّة الدلو، إذ يهادن الماء في القاع على شيء مجهول.
لم تكن الأحداث اعتباطية البتة، أي علاقة كانت تربطنا بالأحداث تلك كلها؟ أي تفسير كان ينبغي لنا رميُ حصاة فيه فنحظى برأفةِ الجوابِ، قادماً إلينا على هيئة صدى؟ حقاً لست أعلم، لكننا وعلى سبيل المثال وبعد انتهاء كل حلقة من مسلسل (البركان) كنا نحن أطفالَ الحي ننقسم إلى مجموعات، كل مجموعة تطلق على نفسها اسم قبيلة، وتبدأ المعارك فيما بيننا بسيوف صنعناها من الخشب، كانت ثمة رغبة باطنية في استكشاف الحياة خارج نافذة الزنزانة، تلك، والتي ترمز إلى التلفاز. ترى، ما هي دوافعنا في خلق جماعات نتقاتل فيما بيننا ودّياً بأسلحة ودّية آنذاك؟ أفكر في السياق المعرفي للأحداث والمشاهد التي كانت تخرج علينا من الصندوق ذاك، الذي كان يُبَثّ من العاصمة المغلقة علينا نحن الجمهورَ الساكنَ والصامتَ والشغوف. تأخذ حالة التلقّي تلك أنماطاً أخرى مرتبطة بمجموعة أغان وطنية وبرامج “حزبية بعثية” وأفلام كرتون وخطابات (حافظ الأسد). كان ثمة تكرير لكل ما نشاهده خلال التلفاز السوري الأرضي، تماماً كما تُكَرَّرُ القمامة الآن.
انفتحت نافذة الزنزانة تلك إلى الأبد، هُدِمَت الجدران تلك، الماديةُ التي كانت تسوّر غرفَنا وبيوتَنا والباطنيةُ التي كانت تحيط بأنفسنا، هُدِمَ كل شي وانفتحت الأزمنة على بعضها البعض إلى الحدود القصوى.
في مسلسل “إخوة التراب”، الحلقة الثالثة، الدقيقة: 28:15.. نشاهد رجلاً نحيلاً جداً، شكلهُ يوحي وكأنه أحد سكان مدينة سورية محاصرة الآن، استُخدِمَ الرجل ذاك في سبيل مشهد تُفضي الدلالة فيه إلى المجاعات التي كَوَتِ الناس زمن الاحتلال العثماني. لكن، من أين جيء بذاك الرجل ذي البدن الضعيف الذي يوحي وكأنّه أحد سكان المدن المحاصرة والجائعة في ذاك الوقت/ تاريخ إنتاج المسلسل المتلفز؟ هل يمكن القول بأنَّ المخرج السوري (نجدة اسماعيل أنزور) استعان بأحد معتقلي (سجن تدمر) مثلاً واستخدمه كومبارساً في مسلسل “وطني”؟ إذاً، وبعد أن انهدم كل شيء في سورية، غدتِ الأشياء غامقةً وأكثر عمقاً كما لو أنها حقيقة قد شاهدت الشمس للمرة الأولى، اختلطت الأزمنة عبر الدمار في سورية إلى الحد الذي يخال لك وكأن المسلسل “إخوة التراب” يتحدث عن سورية في زمن حكم النظام الحالي، كل مشهد هو ميراث ما حدث خلال العقود الأربعة المنصرمة، المسلسل الذي كان في مثابة توبيخ للاحتلال العثماني هو نافذة واضحة وساطعة على بنية النظام السوري؛ من تجويع وقتل وتشريد وخطف وحصار وتحالفات، كما لو أن المخرج (أنزور) قد صنع مسلسله ذاك بذاكرته السورية على الإطلاق، وضعها لنا بخبث ومكر شديدين في إطار زمن آخر، ففي حين يتحدث فيه أحد ضباط الجيش العثماني يخال لك وكأنه ضابط في جيش (بشار الأسد) الآن، بدءاً من الشعارات وليس انتهاءً بالتعذيب والقتل بنهب قوت السوريين. إذاً، كان النظام السوري آنذاك يكتب نفسه، كان بارعاً في صناعة الألم والمعاناة وضخّها لنا نحن الجمهور الشعب على أنه زمن العثمانيين. انفجر السجن، انفجر التلفاز والجدران والأفكار، ولم يزل حبلٌ موثَقٌ إلى نفسي، أرميه في قاع سورية العميق.
*شاعر من سورية
ضفة ثالثة