صبحي حديديصفحات الثقافة

قدس روبرت ستون: قدر على حجر/ صبحي حديدي

 

 

الروائي الأمريكي روبرت ستون (1937ـ2015)، الذي غادر عالمنا قبل أيام، يُعرّف عادة تحت لافتة عريضة، ولكنها ليست شائعة أو مألوفة: البحث عن الحلم الأمريكي، والانتهاء غالباً إلى امتناع العثور عليه، أو بالأحرى العثور على نقائضه، القاتمة البائسة المعذّبة، وليست تلك الوردية الزاهية الواعدة. هو، في ذلك، كان شريك أمثال كين كيسي، صاحب الرواية الفريدة «طيران فوق عش الوقواق»؛ ونيل كاسيدي، أحد أبرز شخصيات حركة «الثقافة المضادة» والـ Beat Generation. وأمّا على صعيد الفنّ الروائي، فإنّ ستون تميّز بقدرة عالية على المزج الناجح بين التشويق البوليسي، عند جون لوكاريه؛ والتأمّل الوجودي العميق، على طريقة هرمان ملفيل؛ والاختراقات الشعورية المذهلة في عبثية الزمن الإنساني، على غرار صموئيل بيكيت.

ذلك دفع ستون إلى الانشغال بهموم البشر السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، رغم أنه لا يُصنّف، البتة، في خانة الأديب الملتزم؛ وذهب برواياته إلى مدن مثل سايغون وسانتياغو وهافانا، أسوة بالمدن الأمريكية؛ إذْ كان الإغواء المجتمعي للمكان يقترن، أيضاً، بواقعة أو سلسلة وقائع حقيقية، تغوي ببناء حبكة محكمة. روايته الأولى «قاعة مرايا»، 1966، بشّرت بموضوعاته الأثيرة، حول الجنون والشقاء الإنساني والتعصب المسيحي والثقافة المتفسخة كما تتمثل في النفاق الهوليودي؛ وكذلك سارت رواياته الأشهر «راية للشروق»، و «جنود الكلب»، و «أبناء الضوء»، و «خليج الأرواح»، فضلاً عن عمله الأخير «موت فتاة سوداء الشعر». ولقد كان لمدينة القدس حظها في هذا الخيار، فكتب ستون «باب دمشق» سنة 1998، حيث تتوغّل الرواية عميقاً في باطن المدينة البشري والديني والرمزي المعقد.

ثمة، بادئ ذي بدء، حبكة عالية الترابط، تتشابك خيوطها عبر مؤامرة إرهابية يحيكها، ويشرع في تنفيذها، يهود متشددون؛ يؤمنون أن نسف مسجد عمر كفيل بتحقيق جملة أهداف كبرى: إشعال حرب دينية يهودية ـ إسلامية وإسرائيلية ـ فلسطينية، تمنح القيادة الإسرائيلية فرصة ذهبية لسحق الفلسطينيين وطردهم نهائياً من إسرائيل الكبرى. الأهداف الإضافية تتضمن استقطاب اليهود أنصاف المتدينين إلى صفّ التشدد، وتوفير الفرصة لإعادة بناء الهيكل، وبالتالي استمالة ملايين الأمريكيين المسيحيين المؤمنين بأن «المجيء الثاني» للمخلّص لن يتحقق إلا إذا قامت ـ ثم بادت! ـ أورشليم الجديدة الثانية. وثمة، بعدئذ، تأمّل فلسفي ينساق إليه ستون حين يردّ جذور المؤامرة إلى عقائد صوفية يهودية قديمة؛ وتأمّل وجودي وإثني وثقافي، يدفعه إلى وضع معظم أبطاله في موقع وسيط (البطل نصف يهودي ـ نصف كاثوليكي، والبطلة يهودية أمريكية سوداء، وثمة جنسيات أوروبية متنوعة، وأمزجة متباينة، وسلوكيات راقية وأخرى وضيعة).

والصحافي الأمريكي الشاب كريستوفر لوكاس، بطل الرواية، والنموذج القياسي للبراءة الأمريكية؛ يعشق زيارة «باب العمود»، في التسمية العربية، وتشدّه إيحاءات «طريق دمشق» بوصفه درب النور الذي سلكه شاول الطرسوسي (اليهودي الفريسي الذي أذاق المسيحيين صنوف العذاب، قبل أن يؤمن ويصبح، بتزكية من برنابا الحواريّ، بولس الرسول وحامل المسيحية إلى أوروبا). لكنّ لوكاس يغادر القدس، مدركاً أنّ باطن هذه المدينة أشدّ تعقيداً من أن يحتمل رواية واحدة للحدث الواحد ذاته؛ وأنّ المشروع الذي جاء به إلى الأراضي المقدسة، أي كتابة تحقيق عن العنف والأصولية الدينية، لن يفلح في الهرب من التنميطات المعتادة.

قبل هذا القرار، كان لوكاس قد زار مدينة غزّة، مباشرة بعد زيارة متحف «ياد فاشيم»، فاختلطت في ضميره عذابات الهولوكوست بعذابات الفلسطينيين. صديقته سونيا بارنز، يهودية الأمّ، مسيحية الأب، سوداء البشرة، متصوّفة الروح؛ تتوقف أسفل قوس الباب العتيق، لتهجس قائلة في وداعه: «وماذا عنّا نحن؟ ماذا نفعل هنا بحقّ الجحيم؟ مَنْ نحن في الأساس؟». هنا تبدو الرواية بمثابة تذكرة بليغة بهوس إسرائيلي متأصل، يحيل علم الآثار إلى هستيريا توراتية، على النحو الذي قاد أحد الآثاريين الإسرائيليين إلى الاقتراح التالي: سوف نطلق على عصر الحديد اسم «عصر بني إسرائيل»، والهيلليني سوف يصبح «العصر الحشموني»، والروماني نسمّيه «عصر المشناه»، والبيزنطي هو «العصر التلمودي».

وفي «باب دمشق» تبلغ لغة ستون ذُرى عالية في شحن النثر بطاقات إيحائية ومجازية، تداني الشعر؛ ربما بوحي من خصوصية القدس، واحتشاد المكان برموز ودلالات متعددة، وتعددية، على نحو هذا التوصيف للمدينة، كما يجري على لسان لوكاس: «هنا، مركز العالم، حيث الأرض تلامس السماء. حيث كُتب مصير الإنسان. حيث الكلمات صُنعت من نار فاكتست باللحم. حيث اللامرئي سطّر القدر على حجر».

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى