صفحات العالم

قراءات مغلوطة للمشهد السياسي في سوريا


باسل أبو حمدة

ثلاث قراءات قيد التداول للمشهد السياسي السوري، إثنتان منهما مغلوطتان عمدا بينما تتجذر الثالثة في واقع يوميات المواطن السوري وتستمد صحتها من وجعه ودمه النازف، القراءة الأولى تقوم على وصف ما يجري بالحرب الأهلية بينما تذهب الثانية إلى وصف ما يجري بأنه حرب إقليمية – عالمية بالوكالة، لكن واقع الحال الذي تشي به القراءة الثالثة يؤكد أن ما يجري لا يخرج البتة عن إطار القمع والممارسات الاستبدادية حيث يقوم النظام السوري بقتل الشعب السوري.

تشخيص الحالة السورية، التي لا تشبه أي حالة أخرى من ناحية منسوب القتل القائم على عقيدة مريضة تنــــبذ الآخر أي آخــــر وتسمه بالخيانة العظمى وتحلل قتله، لا يحتاح إلى كثير عناء ولا إلى كل تلك التحليلات السياسية الرائجة هذه الأيام حتى يماط اللثــــام عن عملية قتل معلنة وممنهجة ومفضوحة ترتكبها عصابة النظام على المكشوف بحق شعب أعزل، لكن كي لا يبدو هذا التشخيص ميالا إلى الرومانسية والعاطفة، سنسمح لأنفسنا ونمضي في تحليل القراءات الثلاث التي يتم تداولها على نطاق واسع بين كافة السياسيين والمحللين وعلى اختلاف مللهم ومشاربهم وحتى مصالحهم.

الحرب الأهلية تندلع عادة بين جماعات مسلحة في دولة ما، وهي تسمى كذلك عندما يتوفر عنصر التكافؤ النسبي أو الحد الأدنى منه بين القوى المتصارعة بغض النظر عن الأسباب التي تدفعها إلى خوض ذلك الصراع والتي يمكن أن تكون سياسية أو طبقية أو دينية أو عرقية أو إقليمية أو مزيجا من هذه العوامل مجتمعة أو بعضها، أي أن تسمية هذا النزاع المسلح أو ذاك لا تتأتى من أسبابه وإنما من شكله وحجوم القوى المشاركة فيه والتي تميل في غالب الأحيان إلى التشابه والتقارب في هذه الحالة، الأمر الذي لا ينطبق على الحالة السورية وينفي، بالتالي، أي مسوغ يستدعي إطلاق صفة الحرب الأهلية على الصراع الدائر في سوريا على السلطة السياسية بين جيش نظامي بكامل عدته وتعداده وعتاده يسانده نحو 15 فرع مخابرات ومئات الآلاف من الميليشيات العسكرية أو شبه العسكرية من جهة وبين شعب أعزل يقف إلى جانبه مجموعة من الضباط والجنود الذين انشقوا عن الجيش النظامي حماية للثورة الشعبية السلمية التي اندلعت في أحياء المدن والقرى والأرياف بشكل شبه عفوي بعد أن طفح الكيل بالناس وقرروا استعادة حريتهم المسلوبة منذ نحو نصف قرن من الزمن.

الأمثلة كثيرة على الحروب الأهلية في العالم وكي لا نبتعد كثيرا عن الجغرافيا السورية، سنأخذ ما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي له عام 2003 نموذجا يمكن الاعتماد في توصيف الحرب الأهلية، التي دارت رحاها هناك بين قوى سياسية متصارعة ليس على السلطة فقط وإنما على إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية للعراق وإعادة موضعة مكونات الشعب العراقي ضمن تلك الخارطة الجديدة القائمة على مبدأ ‘الكوتا’ أو المحاصصة الطائفية العرقية والتي تمخضت على توافق أعرج هو أقرب إلى إتفاق الطائف الخاص بالحالة اللبنانية، وبمقارنة هذه الخارطة السياسية مع الوضع القائم في سوريا، نجد أن الطرف الوحيد الذي يدفع باتجاه هذا النوع من المحاصصة هو النظام السوري نفسه الذي وجد نفسه مكشوفا أمام المجتمع المحلي والاقليمي والدولي مفتقرا لأي صنف معروف من أصناف الشرعية ما خلا شرعية المحاصصة التي باتت، في عينه، منشودة لأنها الوحيدة، من وجهة نظره، التي تؤمن له الإستمرار في بسط سطوته على كامل سوريا أو على جزء منها إن تعذر الخيار الأول، ومن هنا تأتي مراهنة النظام السوري على مد الصراع زمنيا إلى أطول فترة ممكنة مع تعمد تصعيد منسوب القتل بغية حشر جميع أطرف الصراع البعيدين منهم قبل القريبين في زاوية النموذج العراقي أو اللبناني وغيرهما من نماذج التشكيلات السياسية العرجاء الحاكمة في المنطقة والعالم.

لكن محاولات النظام السوري في هذا الاتجاه باءت بالفشل وقد تكسرت بالفعل لا بالقول على صخرة وعي كافة مكونات الشعب السوري على اختلاف مشاربه لطبيعة الصراع ولم تندلع الحرب الأهلية ‘المنشودة’ التي من شأنها تمزيق البلد وفتح العديد من الثغرات فيه التي تعتبر بمثابة بوابة واسعة للتدخلات الخارجية وهذا ما يحاول النظام السوري فعله على أرض الواقع حيث سرب عمدا ومنذ بداية الثورة الشعبية السورية الكثير من المعلومات حول وجود عناصر أجنبية تسانده في قمع ما يطلق عليه العصابات الارهابية المسلحة، فضلا عن الاعلان عن متتالية من تحركات لقطع من الأساطيل البحرية الروسية وبخترتها في مياه المتوسط ووصولها إلى ميناء طرطوس، بينما لم تأت الدعوات الصادرة عن أطراف من المعارضة السورية للتدخل العربي أو الإقليمي أو الدولي إلى بعد نجاح النظام في إدامة عملية الإبادة الجماعية التي يرتكبها ضد الشعب السوري بكل أطيافه وكذلك بعد أن تمكن من الوصول بمنسوب القتل إلى هذا المستوى غير المسبوق في تاريخ الانسانية، أي أن هذه الدعوات تقع بطريقة أو أخرى في فخ نصبه النظام بغية حرف الأنظار عن الصراع الداخلي الحقيقي على السلطة السياسية، ومن هنا جاءت تلك المقولة التي باتت تتردد على كل لسان والتي تقول إن الصراع لم يعد في سوريا وإنما على سوريا وإن ما يجري في سوريا ما هو إلا حرب إقليمية ودولية بالوكالة وبقية الاسطوانة المشروخة معروفة.

لا، ما يجري في سوريا لا علاقة له بالحرب الأهلية ولا بحروب تخاض على أرضها بالوكالة، ما يجري في سوريا هو صراع على السلطة السياسية بين نظام مستبد وثورة شعبية تواقة إلى الحرية، ومن يقول غير ذلك يقع في حبائل النظام ومكائده ولن يصح إلا الصحيح في نهاية المطاف، فعلى الرغم من محاولات النظام باتجاه شيطنة المعارضة السورية ودفعها إلى حمل السلاح، إلا أن الطابع السلمي للثورة السورية لا يزال يشكل سمتها الأبرز، بيــــنما يعتبر الجيش السوري الحر مجرد رديف للثورة، لا بل إن الأمل معقود على أن ينتقل إلى صفوفه كل ما تبقى في صفوف جيش النظام. أما من يتحدث، في قراءة رابعة ربما، عن طرف ثالث أو رابع أو خامس أو أكثر في مشهد الصراع على السلطة في سوريا، فإن التجربة تشـــــي بأنه سيكون هناك دائما أطراف أخرى، لكن هذه الأطراف لم تشكل ولن تشكل في أي يوم من الأيام أي مكون مهما صغر حجمه من مكونات صراع داخلي بامتياز بين نظام مستبد وثورة شعب تواق إلى الحرية.

‘ كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى