صفحات العالم

صيرورة الثورة السورية


غازي دحمان

لا تحتاج الثورة السورية إلى عملية بحث أركيولوجية لمعرفة مسارات تشكل معمارها البنائي بهندسته الإجتماعية، إن على مستوى التكوين الإجتماعي الفاعل في الثورة، أو على مستوى الإنتشار المناطقي، وما تبعها من عملية توطين للثورة في مختلف البيئات والتكوينات وصولاً إلى شموليتها المرجوة.

ولا يستقيم فهم الثورة السورية وإستشراف مألاتها دون إدراك جملة الحقائق المحيطة بها، وكذا الوقائع والمتغيرات الحاصلة في مسارها، وتلك التي أسهمت في بنائها، وذلك إنطلاقاً من حقيقة أن الثورة السورية التي إنطلقت من ظروف أنية وأدوات محلية هي إبنة بيئة أشمل وتستند إلى معطيات ترسخت في الواقع السوري على إتساع طيف تاريخي يمتد إلى حقب أكثر عمقاً في التاريخ السوري الحديث.

أن ثمة وقائع ستتفاعل في الذهنية السورية كمؤشرات على تحولات السياسة وممكناتها وتكشف قدراً من سرها المموّه في الشعاراتية الطنانة التي طالما تلطى بها النظام عن الصمود والخلود، فكانت واقعة خروج الجيش السوري من لبنان، بالطريقة والكيفية والأسباب، حدثاً صادماً، تمازج مع بدء مرحلة نهاية سطوة أيدولوجية النظام وإعلامه على العقل الجمعي السوري، الذي راح بفضل العولمة وإنتشار الفضائيات يبحث عن تفسيرات تكون أقرب للعقل والمنطق، وبعيداً عن لعبة التضليل المكشوفة والمبتذلة بنفس الأن.

وثمة عوامل أخرى ترتبط بأسفار السوريين وترحالهم، سواء في سبيل البحث عن فرص العمل، أو لأغراض أخرى، المهم أن السوري إكتشف التطورات المتسارعة في أنماط المعيشة والإستهلاك وفي مجالات التقانة والعمران، وغيرها من الأشياء التي لم تتوفر في سوريا ذلك البلد الذي يصدح إعلامه صباح مساء بالإنجازات، في الوقت الذي بدأت تتمظهر على سطح الواقع الإجتماعي جملة من المعطيات المستجدة بفضل النهب الذي تمارسه نخبة من المشكلين للنظام والمرتبطين به، ووصلت تعبيرات هذه الحالة إلى ما يمكن أن نسميه بالبذخ المستفز على ضفاف بحر من الفقر والجوع والحرمان.

تلك هي العناصر التي تكمن في المشهد الخلفي للثورة، أما عن ظروف ولادتها فهي جاءت في ظل حالة الربيع العربي، وكان المجتمع السوري يتحضر، وإن بشكل غير مقصود، لإعلان ثورته، لدرجة أن بعض شعاراتها( خاين يللي بقتل شعبو) تم إطلاقه أمام السفارة الليبية في دمشق مناصرة للثورة الليبية.

وكمثل الثورة التونسية، إنطلقت الثورة السورية من الهوامش، أي من خارج العاصمة، وما لبثت هوامش أخرى، وخاصة ريف العاصمة وحمص الإلتحاق بفعاليات الثورة، ونظراً للبطش الذي مارسته السلطة تجاه المناطق الثائرة، راوحت الثورة في الأماكن ذاتها التي إنطلقت منها، إلا أن هذه الوضعية لم تكن مؤشراً على حصر الثورة في بؤر معينة تمهيداً لإسقاطها على ما سعى النظام وإعتقد، وإنما مثل مرحلة طبيعية لتوطين الثورة في هذه المناطق وتجذيرها ومن ثم نقلها إلى المراكز الاخرى، فصار أن بدأت ضواحي دمشق التي يقطنها أبناء المحافظات بالحراك لتصل إلى أحياء دمشقية عريقة كالميدان وبرزة وركن الدين.

في كل هذه الاثناء حصلت تطورات مهمة في مسار الثورة، لعل أهمها أن الثورة أوجدت ديناميات تطورها بشكل طبيعي ومن سياق مسارها ذاتها، حيث تكرست ظواهر مثل الإضراب والعصيان والتظاهر المستمر، وكذلك ظاهرة(الجيش الحر)، بحيث باتت هذه الديناميات مولدة لدينامية أشمل وهي حالة توسع الحركة الثورية لتشمل مناطق أكثر، كما باتت ضامنة لإستمرارية الثورة على المدى المنظور، ومن شأن المتابع للمشهد الميداني السوري ملاحظة تشكل ثلاث مناطق( شمال إدلب، وريف دمشق، وغرب درعا) كمناطق فيها سلطة موازية لسلطة النظام وتفوقه أحياناً.

ومن شأن مزاوجة هذه التطورات بالحالة الإقتصادية المتردية الناتجة عن تأثير العقوبات وتراجع قطاعات السياحة والتصدير، وتأثر قطاعات واسعة من المواطنين بهذه الوضعية، ضمان تفسير زخم إلتحاق كثير من المترددين في فعاليات الثورة، التي في طريقها لأن تصبح ثورة شاملة وتكمل صيرورتها وتنجز مهمتها المنشودة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى