قراءة الثورة السورية اليوم
غازي دحمان *
في بداية العام الثاني من عمر الثورة السورية، تغيب القراءات الخاصة بها وبفعالياتها، وتكاد تنحصر أغلب التحليلات باستشراف مآلاتها، بحيث يغلب عليها الطابع التشاؤمي المبني على التخوف من الانزلاق في أتون الحرب الأهلية، وآثار ذلك على الوضع الإقليمي برمته، ناهيك عن محاولات بعض القراءات التمعن في مكونات الثورة وفعالياتها، وهي قراءة قصدية تهدف إلى الخلوص إلى التشديد على سيطرة المكون الإسلامي على الثورة، وكل ذلك بما يخدم فرضية تطور الازمة إلى مرحلة الحرب الاهلية.
ولعل في هذا التحول المبكر إلى هذا النمط من الخلاصات، نوعاً من إعلان عدم القدرة على فهم تطور مسارات الثورة، واللجوء تالياً إلى المقاربات التي تنتج صيغاً وقوالب جاهزة يتم على أساسها قياس الحدث السوري وصولاً إلى إدماجه عنوة في السياق الإقليمي ومناخاته «التي أفرزتها الحالة العراقية»، وكأنه قدر لا بد منه، من دون الالتفات إلى إرادة الشعب السوري، ومن دون الأخذ في الاعتبار وقائع الثورة وتطوراتها وحقيقة مكوناتها وممكناتها.
ومع بداية العام الثاني للثورة يمكن رصد مستويات عدة: يتعلق الأول بمناطق الوسط والغرب الثائرة والتي تتضمن خطوط التماس الكبرى، وهي المناطق التي شهدت العنف الاكبر، والذي نتج منه العدد الأكبر من الضحايا والمهجرين، وقد سعى النظام في هذه المناطق إلى تسعير البعد الطائفي، وكانت النتيجة حالة من الفوضى الأمنية، واضطراباً واضحاً في السلم الأهلي. إلا ان المؤكد ان الأمور لم تصل إلى حد الاقتتال. وعلى رغم الجرح النازف في هذه المناطق، لم تزل غالبية الأهالي تحمّل النظام وحده مسؤولية الأحداث. غير ان ذلك لا ينفي حقيقة نجاح النظام في خلق حالة من الانقسام الطائفي، والمؤمل ان يساعد تاريخ العيش المشترك في لأم هذا الجرح.
المستوى الثاني تمكن ملاحظته في الحواضر الريفية جنوباً وشرقاً، حيث أبعد الصفاء التكويني الذي تتضمنه هذه المناطق اللوثة الطائفية، مما اتاح للدينامية الثورية أن تتطور باتجاه مطالب مدنية اكثر تبلوراً ووضوحاً. ويلاحظ في هذا المستوى الإصرار على تطوير الحالة الثورية بتدرجاتها النمطية (تظاهرات، إضراب، عصيان شامل)، الأمر الذي بات يزعج النظام ويدفعه إلى ممارسة أقصى درجات العنف.
المستوى الثالث يمكن ملاحظته في الحواضر المدينية الكبرى، دمشق وحلب، حيث امتداد الثورة بطيء، ولكنه مثابر، وهو يسير على قاعدة المتاح وأكثر قليلاً، لكنه يحقق نجاحات لا يتم التراجع عنها، بمعنى ان الحراك في هذه المناطق يتبع المنهج التراكمي الذي تم تحقيقه مرة بفعل ضعف قبضة السلطة او لنقل تراخيها، ومرة بفعل ما تم اعتماده من محاولات تجريب السلطة واختبار مدى رد فعلها. لكن الحراك، ونتيجة الحالتين، يسير في صعود مستمر، وتتحول المدينتان موقعين غير مريحين للسلطة.
لقد اتاح الحراك في جملة هذه المستويات واقعاً جديداً في الحدث السوري تجلى في إيجاد نظام للحراك يشتغل في إطاره، وصارت له خطوط إمداد وقنوات تواصل وقاعدة تنظيمية. صحيح ان اشتغال هذا النظام على المستوى القومي لا يزال يعاني بعض الإشكالات ذات الطابع التقني، لكنه وضمن الإمكانات المتاحة، يمكن ان يضمن استمرار الحالة الثورية وإمكانية تطويرها في الأفق القريب جداً. وما يضمن نجاح هذا الاحتمال، حالة المرونة التي امتلكتها الثورة بعد خبرة عام كامل، وهو امر يمكن ملاحظته على أرض الواقع في شكل جلي، حيث باتت قوى الثورة تمتلك هوامش واسعة في العمل الميداني ونوعاً من تعدد الأنشطة في مختلف المجالات، إضافة إلى ممارسة تكتيكات متعددة في المناورة والتخفي العصيين على الاختراق.
في مقابل كل ذلك، تنطوي بنية النظام في سورية على حالة من التوتر تكشف عنها رغبته في إنهاء مفاعيل الثورة في اسرع وقت ممكن. وتشير معلومات مؤكدة إلى شيوع نوع من الإحباط في بعض مستويات النخبة، وبخاصة تلك التي لم تتورط كثيراً في الحدث، حيث اتاحت لها التطورات قراءة المشهد من زوايا مختلفة وباتت على قناعة مؤكدة بأن الامور ليست كما يصورها النظام.
لقد أثبتت الثورة السورية قدرة كبيرة على الإفلات من حالات التنميط التي أريد لها أن تتقولب فيها، مما يؤهلها إلى ابتداع مسارات جديدة ومختلفة. المهم ألا تتوقف قراءتها عند حافة اكتشاف حالة التنوع الطائفي الموجود في البلاد واعتباره الآلية الوحيدة الحاكمة للحراك.
* كاتب فلسطيني