قراء المقالات/ امير تاج السر
من الأشياء المهمة التي أعتبرها جزءا من عملية حث الكاتب على مواصلة كتابته لمقالاته الدورية، بروح عالية، وربما لا يهتم بها معظم الكتاب، أو لا ينتبهون إليها في الأصل، تلك التعليقات التي تصدر من قراء، تخصصوا في مطالعة المقالات التي تنشرها الصحف والمواقع الإلكترونية الهامة، بكل أنواعها من سياسية واقتصادية واجتماعية، ودائما ما تجد في تعليقاتهم معرفة جيدة، أو تنويهات لأشياء قد يكون أغفلها الكاتب، أو لم ترد إلى ذهنه أثناء الكتابة.
هؤلاء القراء الذين صنفتهم، بناء على تواصل عدد منهم معي، قراء متخصصين في المقالات فقط، قد لا يعرفون كثيرا عن الكاتب الذي يقرأون جزءا من نشاطه ويعلقون عليه. بمعنى أنهم يعرفون النشاط اليومي، أو الأسبوعي الذي يحرصون عليه، بينما يكون لدى الكاتب مؤلفات عديدة، في مجالات الأدب أو السياسة أو المعرفة عموما ولم تخطر ببالهم، وهذا ليس مشكلة على الإطلاق، ما دام لتلك النشاطات متابعون في أماكن أخرى هم أيضا قد لا يدركون أن كاتبهم له زاوية في صحيفة ما أو موقع إلكتروني، وهو مثلهم يتابع قضايا الحياة، ويكتب عنها ببساطة خارج نطاق الكتب.
حقيقة هذه مسألة اهتممت بها مؤخرا، وإن كنت لا أجد وقتا لمحاورة من يعلق على مقال لي لكن قطعا أستلف منه روحا معينة، أعمل عليها في مكان آخر، وقد لا يتوقع القارئ أنه بذلك التعليق البسيط، أسفل المقال، قد أوحى لكاتبه بفكرة ما، نشط من أجلها، وطورها، وكانت بمثابة وقود محرك.
في أحد المقالات، كنت تحدثت عن عالمية النصوص وكتابها، وكيف نخلط في العادة بين النص المترجم للغة أخرى غير لغته، أو حتى لغات عدة، والنص الذي يعتبر عالميا. قلت أن الترجمة في حد ذاتها، ليست طريقا عالميا تسلكه الكتابة بجواز سفر معبأ بتأشيرات الدخول لأي مكان، وإنما وقفة قصيرة أو طويلة، أمام جوازات الإبداع، قد يحصل بموجبها على تأشيرة دخول وقد لا يحصل، بينما النص العالمي، هو ذلك يعبر ببساطة إلى التذوق بعد ترجمته. ذلك أنه أثار موضوعا عاما تتناقله البلاد كافة، أو تحدث عن مرض يصيب الناس في زيمبابوي ومونتريال على حد سواء، مثل الفيروسات، أو تنبأ بكارثة ستحدث في بقعة معينة، وحدثت تلك الكارثة، وثمة نصوص كثيرة، كتبت في بلاد العرب وفي الهند والصين انطبقت عليها صفة العالمية وأصبحت عالمية بالفعل.
بخصوص كتابتي تلك، علق قارئ، وكان يعتقد أن العالمية أيضا سلوك للكاتب بقدر ما هي سلوك للنص، أي أن الكاتب العالمي ينبغي أن يشبه نصه في ارتداء المعرفة، والاستعداد لنشرها. وقد اعتبرت ذلك التعليق حيويا جدا، وبالفعل، كلما كان المؤلف أنيقا في سلوكه، وحضاريا، وممتلئا بالمعرفة، وله خبرات واسعة في مجالات المعرفة المتعددة، ويستطيع أن يملأ قاعات المحاضرات هنا وهناك برصانته، كان النص سريع العبور، ويتم تذوقه، والتنويه له في محافل عدة.
أيضا كتبت عن المكتبات المنزلية، وشبهتها بالعنابر المملوءة بأرواح كثيرة، هي أرواح الكتب التي تتحاوم في بيوتنا، وتسعدنا بوجودها وقد لا نحس بها، لأننا نغفل شيئا هاما، هو تخيل ما قبل خلق تلك الكتب، وفي أي حالة من حالات النشوة أو الجنون كان كتابها حين صاغوها. وأيضا يجد بعض القراء نوافذ مشرعة في الموضوع ليلجوا عبره، ويؤكد بعض منهم أنهم فعلا ابتدأوا يتخيلون تلك الأرواح الموجودة في مكتباتهم، ويتصفحون الكتب تلمسا لها، وبالفعل عثر بعضهم على ذكريات له مع الكتب، حين اشتراها أو حين كان يقرأها، وهناك من تذكر تاريخ الشراء، وحتى من أين تم.
من ناحية أخرى أجد أن كثيرا من مواقع الإنترنت الصحفية التي تتيح إمكانية التعليق، تواجه بما يمكن أن تكون تعليقات غير سلسة أو غير محتشمة، وفيها سباب قد يطول الكاتب وكتابته. هذه المواقع التي لا تلجأ لخاصية الفلترة، وأن يدقق التعليق قبل أن يوضع على الصفحة أسفل المقال أو أسفل الخبر، أعتقد أنها ينبغي أن تكون أكثر حذرا وأكثر انحيازا لكاتبها، وضد تشويهه بواسطة بعض الذين لا يقرأون أصلا وإنما يدخلون الإنترنت المتاح في كل ركن من أركان الكرة الأرضية، لمجرد أن هناك إمكانية إبحار غير مكلفة قي ذلك الفضاء.
لقد تابعت في إحدى المرات تعليقات أسفل مواضيع متنوعة في صحف كثيرة، وفي مواقع إلكترونية هامة، وذلك بغرض الاطلاع على ما يكتبه القراء عادة، وكانت للأسف، سياحة غير ممتعة، ذلك أن كل شيء يمكن أن يكتب وكل نعت مهما كان مؤلما وبذيئا، هناك من يكتبه، بخلاف التعليقات التي تدعو للعنصرية والطائفية وأشياء أخرى ضد الإنسان.
ما ذكرته لا يعني أن تتحول المواضيع المنشورة على الإنترنت إلى منصات رفض لكل متداخل، وإنما تقنين المسألة، بحيث يوضع التعليق الجيد، الذي يوحي بفكرة، والذي يدعم الكاتب في سعيه لتحسين أداءه الكتابي، والذي لا يحمل أي سيف أو سكين ليجرح من كتب، ومن شارك بكتابة تعليق نظيف. هذا يدعم الكتابة ويشجعها ويطورها أيضا.
وعلى هذا النسق، يمكن لتعليقات القراء هذه أن تتطور هي الأخرى، وتتحول هي تفسها إلى مواد كتابية. وقد لاحظت في كثير ممن يكتبون التعليقات، أنهم يملكون أدوات أدبية يستخدمونها في تلك الفقرات القصيرة، ومنهم من يكتب قصيدة شعرية، يسعى لجذب الانتباه لها، أو حكاية طويلة، لو تم تهذيبها وإضافة فقرات لها أو حذف فقرات منها، لأصبحت قطعة أدبية جديرة بالقراءة والاهتمام.
أيضا هناك قراء بعينهم تتكرر أسماؤهم وتعليقاتهم أسفل المواضيع التي يحبون قراءتها، وإضافة أفكارهم إليها، وذلك في كل المجالات، إن كانت ثقافية أو سياسية أو رياضية. وقطعا يصبح لمثل هؤلاء، ذوي الوجود شبه الدائم، مذاق خاص، وعطر ثري لا تكتمل الكتابة إلا به. و أذكر أن قارئة من تونس، كانت تتابع لزمن طويل، ثم توقفت، وأحس أن ثمة نقصا في عدم وجودها.
الخلاصة، أن الكاتب والقارئ شريكان في مسألة الكتابة، خاصة تلك اليومية التي تهتم بأحوال الناس، وتلمس حياتهم، القارئ يجد شيئا من المعرفة وربما المتعة في ما يقرأه، والكاتب يجد متعة أخرى في كونه أثار حماس قارئ بعيد لا يعرفه، وفي الوقت نفسه تحمس هو لإنتاج كتابة أكثر جدية وتطورا. وشخصيا حين أتذكر بداياتي في صحيفة “الوطن“ القطرية، أواسط تسعينيات القرن الماضي، أحس بكثير من الإمتنان لقراء، تحدثوا عن أداء المقالات الشعري، شبه الغامض، آنذاك، وأدى ذلك لتحرري من قيود الأدب العديدة، أثناء كتابة مواد غير مرتبطة بالأدب في الغالب.
*كاتب سوداني
لقدس العربي