“قربَ كنيسة السّريان”ديوان عارف حمزة الجديد: رثاء ناقم ورقيق
علي جازو
هذا العمل الشعري الجديد محاصَر بالحنين والشكوى. فيما يتجه الحنين إلى الماضي والمستقبل، تمسك الشكوى بالحاضر، باللحظة الحرجة. قصيدة الشاعر السوري عارف حمزة (المولود في مدينة الحسكة سنة 1974)، كما ظهرت في مجموعته الجديدة، وهي السادسة له، بعد ديوانه المميز “الكناري الميت منذ يومين”، (صدر عام 2009 عن دار النهضة العربية)، ليست غامضة ولا طويلة. إنها ابنة كلمات واضحة ومحدودة. ليست عالية في صوتها ولا معجمية في صورها. هي لذلك ، ربما، بطيئة هادئة، قريبة وأليفة. إنها أشبه بعمل توثيقي، بتذكار ضروري، أو تسجيل صوتي، كثير التقطع والارتداد والسيولة، لا يريد أن ينتهي.
ما من كلمة غريبة هنا، ومع ذلك، تبدو كما لو أنها قادمة من أماكن بعيدة غامضة، ضبابية ومتداخلة. إنها أماكن تشبه” أسلحة سرّية” وقد لعبت فيها الأقدارُ والذكريات والتحولات، والسيرة الذاتية المتنقلة من قصيدة إلى أخرى، إلى أن تحولت بدورها إلى صوت وحيد، هو صوت العزلة وصوت الحنين، صوت الأمل، وصوت المرض، مجتمعين داخل كتاب هو بقايا سيرة حياة متقطعة وجريحة، لكن أيضاً ممتلئة بالحلم والحبّ، باللعب والحلم.
الصوت، كحامل لإرادة حية، صوت الفرد المسحوق والمنسي، في بلد كسوريا، من بين عناصر أخرى أقل أهمية ربما، يصنع قصائد الشاعر السوري عارف حمزة، في ديوانه الجديد “قرب كنيسة السريان” (الصادر حديثاً عن دار الفارابي في بيروت). القصائد تتكلم، ومن سيل كلامها تتخيل ما يساعدها على مواصلة التكلم. إنها، كما يقول عارف: ” تدافع عن نفسها”، لئلا تغرق في مكان ضيق، لئلا تختنق بضيقها، مشغولة بما يجعلها قريبة، ملموسة، هامسة، ساخرة وهائمة. يبدو الكلام صانعاً وحيداً وقادراً على امتصاص الصور والأحداث في وحدة واسعة ومضطربة ومشتتة. قصائد عارف قصائد كلامٍ يتكلم إليك، كلام يسيل ويسأل، يحاور ويتحول أثناء سيلانه، يمسّك ويتمسك بك من دون أن يشد من القبضة؛ فالصوت هامسٌ كمياه ذاقت التعب، والصور موزعة ومتباعدة داخل عين عزلة وحيدة.
إنها صوت من تألم كثيراً ورأى كثيراً، حتى لم يبق فيه سوى همس خافت. هي لا تشكو رغم أن الشكوى تؤلف المادة الأساسية التي تصدر منها. ويكاد الفقد والهجران والتخلي أن تكون المعاني الصلبة التي يقوم عليها بناء معظم القصائد. إنها تتحرك في عالم رثائي حيث يمكن لأي شيء أن ينزلق نحو مكان سرعان ما يغدو أرضاً للنحيب والحسرة، لكنها أيضاً درامية ومتحولة ومفاجئة، فالصور تأتي من مكان غامض وغير متوقع، ثم سرعان ما تختفي تاركة خلفها الكلام وليداً ويتيماً في آن واحد. كأن مايقال في البداية لا يعرف وجهاً للنهاية، او كأنما ما يختم القصيدة يعود بها من حيث بدأت؛ حائرة كما يجدر بكل قصيدة. هكذا تكون الولادة واليتم منبعين خصبين لرثائية هشة وناقمة. غير أن عارف يسخر مما يكتب إذ يضمّن القصائد ما يشبه سخرية خفية، حيث الأقدار، أقدار الطوائف والأعراق، وثمة قصيدة عنها في هذا الديوان، تكاد تكون أشبه بمزحة تختلط فيها المصيبة مع التهريج واللمسة الدافئة مع “الصرخة الصامتة” إذ يتحول الممنوع إلى مشتهى ملعون.
هكذا يتجول الألمُ، شاهداً تائهاً وهازئاً، عبر “شَعْرَة” تسقط، وما علينا سوى تتبع مسارها المتخيل والغريب في قصيدة (كما أوصاني طبيب الأشعة):
أجلسُ إلى الطاولة نفسها منتظراً الشيء نفسه./ لا تراقبُ المارّةَ/ العينُ التي/ على الزجاج المقابل/ لمبنى البرلمان/ إنني أنتظر، فحسب، هذه الشعرة كي تسقط من رأسي على الطاولة/ ستبدو في ذلك الزجاج كأنها تسقط بين أرجل المارة/ الذين يدعسونها هناك/ بينما أحتفظ بها في منديل/ كما أوصاني طبيبُ الأشعة. / ربما ستنزل تلك الشعرة هناك على حذاء./ وربما على تنورة مقصوصة من حمار وحشي بريء/ من يدري؟/ ولكنها ستذهب/ لتصنع فضيحة لتلك المرأة التي نزلتْ تواً من سيارة عشيقها/ وأنهت ترتيب الأشياء جيداً/ ولكنها لم تنتبه/ لتلك الكارثة الشقراء/ التي سقطت عليها/ مقابل مبنى البرلمان/ وستحملها/ الآن/ معها/ إلى البيت”.
الصوت هامس، لكنه مذعور. ومن رأى الرعب يتكلم الآن، لا يصرخ، لكنه يرسل عبر الهمسة ما لا تقوى الصرخات على حمله. هكذا تكون القصيدة سجلاً للمرضى للمنسيين والمهانين والمعذبين. يحيا الشاعر حياة غيره، لا حياته وحدها فقط. إنه عبر ما يفقده ويؤلمه يرى آلام الآخرين الذين ليسوا سوى أمثاله. لكن القصائد في العموم تميل إلى الشرح والتفسير كأنها لا تكتفي بالإشارة والتلميح، فتتبعها بتوضيح يكاد يكون أقرب إلى حاجة صوتية. ولا ينشغل عارف حمزة باللغة التي يكتب بها، فهي تشبه المألوف والدارج، قدر ما يغرق في الصوت الذي يأتينا عبرها. هذه حقاً لغة مائية سلسة ومتموجة، بها الكثير من العثرات واللقاءات المدهشة والمرتجلة في آن. ولا يختلف عمل عارف حمزة الجديد عن أعمال سابقة لكنه في الآن لا يشبهها ولا يماثلها.
تبدو القصائد مرهقة، فالصبي الذي يتذكرها، ويتذكر ماضي حياتها، غدا كمن فقد كل شيء، وهو يريد أن يحفظ لنا حرارة هذا الفقدان وهذه الخسارة الشاملة: ” في هذه الدنيا خسرت كل شيء/ وطوال سنوات/ كنت أسند فكرتي عن العالم/ بيدين/ كان يمكن استعمالهما في أشياء أخرى/ لا تسبب كل هذه الآلام/ أو وضعهما في حقيبة ورميها في البحر/ كان يمكن أن أبقى ناظراً إلى السقف/ أن ألهيه بالنظرات اليتيمة والقوية/ وليسقط فيما بعد/ بمجرد أن أتلهى بالأمل”. صوت حميم و”عادل” يخرج نقياً و”كليماً” من شمال شرقي سوريا، ليحمل أعباء الخسارة، ليذكر بها، ويتخلص منها وينقذها، لتنجو عبر الكلمات، من وسط وقائع خشنة غريبة وحشية، خاوية وغير عادلة.
هكذا ينسج الشاعر ألفة ما مع العالم ضدّ العالم، في مكان ضيق يتوارى من كثرة ما يُنسى، ويتبدد لفرط ما يتمزق. القصيدة تعيد ما تمزق وغرق لترفعه إلى السطح وتعرضه من جديد أمام العين: إنها تلك الألفة التي غدت مستحيلة وذاك السرّ الذي تعفن واسودّ مسحوقاً تحت أحذية سوداء ثقيلة.
الشعر هنا شهادة من نوع آخر، شهادة تحفظ السرّ المرير، وتشير فيما هي ترجو وتتأسى، إلى قسوة الشقاء الذي يمكن أن ينقله شاعرٌ، من بلد محتقن ومتكسر، حميم وخانق، عميق ومتبدد كسوريا، أرض اليتامى والشعراء والمنسيين، حيث يبتكر الخفيّ شقيق اليومي، الذي لم يعد خفياً، مرئياتٍ ثقيلة تائهة داخل صوت واحد، يسيل ويبقى، يتموج، ويترنح كارتعاشات الألم.
المستقبل