صفحات الثقافة

قصيدتان للشاعر الأميركي شيرمن ألكسي: ملائكةٌ يصفعون أرواحنا بأجنحتهم الباردة


    ألفراد الخوري

“كم نوعاً من الألم يوجد في هذا العالم؟ أعتقد أنّ هنالك نوعاً واحداً فقط نظلّ ندور حوله جميعُنا كروّاد بليدين، فوق الأرض نفسها حتى نشعر بأنّ المنظر قد أصبح مألوفاً جداً، عندها نحطّ الرحال ونسمّي هذا المكان وطناً”. هذا ما يقوله الشاعر شيرمن ألكسي، الذي ولد في ولاية واشنطن عام 1966 وينتمي الى سكّان أميركا الأصليين ويتحدّر من قبيلتَي سبوكايْن وكوردالان المتمركزتين شمال شرق الولايات المتحدة.

في السنين العشر الأخيرة، استطاع هذا الكاتب صاحب الإهتمامات المتعدّدة أن يحقّق شهرة واسعة، ليس في أميركا فحسب، بل في مختلف أنحاء العالم. استُقبلت أعماله بحفاوة نقدية كبيرة، وتُرجمت الى لغات عدّة. اعتبرته مجلّة “نيويورك تايمس” الأميركيّة أحد أبرز الأصوات الغنائية في هذا العصر، ووصفته مجلّة “لير” الفرنسيّة بالشاعر الكبير وبنجم الآداب الهندو-أميركيّة. في مختلف الأنواع الكتابية التي يخوضها، يعالج شيرمن ألكسي الثيمات نفسها تقريباً (اليأس، الفقر، الإدمان، الفقدان، التمييز العرقي…). لكنّ أعماله الشعرية تمتاز بحدّتها ودفقها وسخريتها السوداء التي يعرف الشاعر كيف يلجأ إليها في توقيت يخدم سياق القصيدة وينقذها أحياناً كثيرة من الوقوع في التراجيديا الطافحة والذاتية المستغلقة. قصيدته قصيدةٌ أميركيّة للغاية: سردية، واقعية، ولا تخلو من المباشرة أحياناً. فيها إكزوتيكيّة ساحرة وغرابة مدهشة وحساسيّة مفرطة وغنائية جارفة. لكن فيها أيضاً أصالة التجربة وعمقها. يقول الناقد ستيفن روس إنّ قصيدة شيرمن ألكسي “سلسة من دون أن تكون خفيفة، شعبية من دون أن تكون مبتذلة، جديّة من دون أن تكون متزمّتة”.

حمل هذا الشاعر أحزان الهنود الأميركيين، مستلهماً أساطيرهم وحكاياتهم وطقوسهم، ومعبِّراً عن تسكّعهم وإدمانهم وشقائهم وغربتهم ومعاناتهم بسبب ما يتعرّضون له من تمييز واضطهاد. لكنّ هذا الإلتزام لم يحدّ من حريّته ويوقعه في فخّ الرتابة والصنميّة والبهوت، بل ظلّت كتاباته حرّة توغل في متاهات التجريب والإبتكار والمغامرة. في أعماله، تنتفي الحدود بين الشعر والنثر، بين القصّة والقصيدة والمسرح واليوميات. قصصه طافحة بالشعرية، فيما تبدو قصائده، التي يستخدم فيها السرد والشخصيّات والحوارات بكثرة، كأنّها كُتبت لكي تُمَسرح وتمثَّل.

في حوزة شيرمن ألكسي اليوم حوالى ثلاث عشرة مجموعة شعريّة آخرها “وجه” عام 2009، فضلاً عن العديد من الروايات والمجموعات القصصية والأفلام السينمائية. وهو يعيش حاليّاً في مدينة سياتل مع زوجته وولديه.

الحزن يدعونا الى أشياء هذا العالم

تنفتح العينان على هاتف أزرق

في حمّام هذا الفندق ذي النجوم الخمس.

أتساءل بمَن عليَّ أن أتصل؟

بالسمكري، بجرّاح الأمعاء، بطبيب المسالك البولية، أم بالكاهن؟

مَنْ مُباركٌ بيننا وأكثر استحقاقاً لتلقّي الإتصال الأول؟

اخترتُ أبي لأنه يفاجأ كثيراً بالإتصالات التي تأتيه من الحمّام.

طلبتُ رقم المنزل. أجابت أمّي.

“هاي، ماما، قلتُ، هل لي أن أتحدّث الى بابا؟”

تأوّهتْ،

عندها فقط

تذكّرتُ أنّ أبي كان قد توفّى منذ حوالى عام.

“تبّاً، ماما، قلت. لقد نسيتُ أنّه ميّت. أنا آسف، كيف لي أن أنسى؟”

“لا عليك، قالت. لقد صنعتُ له فنجاناً من القهوة الفوريّة

هذا الصباح

ووضعتُه على الطاولة،

مثلما اعتدت أن أفعل طوال سبعة وعشرين عاماً،

ولم أنتبه الى هفوتي إلاّ بعد الظهر”.

تضحك أمّي،

على الملائكة الذين ينتظروننا لنأخذ استراحةً

خلال النهارات الأكثر رتابةً

نعبّر فيها عن إعجابنا بمقدرتنا على النسيان،

قبل أن يصفعوا أرواحنا بأجنحتهم الباردة.

هؤلاء الملائكة يثقلون كواهلنا بالأحمال ويُفقدوننا التوازن.

هؤلاء الملائكة القذرون يركبون على ظهورنا.

هؤلاء الملائكة، المتهاوون أبداً، ينصبون لنا الفخاخ

ثمّ يرموننا، فريسةً وصلاةً، في لجّة الغبار.

المياه (مقاطع)

1

أعرف امرأةً

تسبح عاريةً

في المحيط

في كل فصلٍ من الفصول.

ليس لديَّ سببٌ آخر

في إخبارك بذلك (وأنا لم أشاهدها قطُّ وهي تغطس في الملح عند الصباح المبكر)

سوى أن أجعلك تعلم أنّي ذات مرّة

وجدتُ التفكير في عريها فعلاً إيروتيكيّاً،

لكن الآن في إمكاني فقط أن أتخيّل البرد الرهيب،

وكم أرغب في أن أغطّي جسدها بمعطفي وأخبرها كم هي مجنونة

بسبب ثقتها العمياء

بثلثين من الهيدروجين وثلث من الأوكسيجين.

2

أثناء قراءتي روايةً غامضة (لم أعد أذكر عنوانها)

أوقعتُ كوباً من الشاي الساخن في حضني.

حروقٌ من الدرجة الثالثة على فخذيَّ وقضيبي.

لا أزال

أحتفظ بندب الحروق تلك،

وذات مرّة،

قلتُ لامرأة بيضاء إنها آثار احتفالٍ بالبلوغ

يُعتبر من الطقوس المقدّسة جدّاً عند إحدى القبائل الهنديّة.

3

أعرف رجلاً

غرق في ثلاث بوصات من المياه،

مياه الأمطار التي تجمّعت

في ثلمٍ تحت إطار شاحنة.

اتّهمني أهله وأصدقاؤه

بأنّي جعلت من موته قضيّةً

لكنّني أصررت على براءتي.

يا إلهي، أعتقد

أنّ موته مأسويّ، ربّما ملحميّ،

الفصلُ الأوّل والأخير

من عرض أوبرا،

وأتمنّى لو أنّني أستطيع أن أذكر اسمه هنا،

أن أجعله معروفاً،

لكنّ ذلك ممنوع عليَّ

بحكم بعض القوانين القبليّة التي هي أهمّ بكثير من كل قصيدة.

لكنّي أرغب في أن أعطيه اسماً

يحمل المعنى الذي أريد، وهكذا أسمّيه هاملت، الملك لير، أوتيلّو، نوح، آدم.

4

في حال هبوط الطائرة فوق المياه، وهذا شأنٌ قليل الحدوث،

في إمكانك أن تستعمل وسادة مقعدك كوسيلةٍ للتعويم.

يخيفني هذا الأمر.

أتساءل إذا كانت الوسادة الضعيفة تستطيع أن تتحمل وزني، فأنا رجل ضخم.

في حال الهبوط فوق المياه، وهذا شأنٌ قليل الحدوث،

في إمكانك أن تستعمل وسادة مقعدك كوسيلةٍ للتعويم.

طبعاً، نحن لن نتحطّم. نحطُّ بأمان. دائماً نحطّ بأمان. ثمّ هاه! هاه!

مضيفة الطيران تطلب من الركاب المترجّلين أن يقودوا على مهل

لدى مغادرتهم المطار

لأنّ قيادة السيارة، وفق ما تشير إليه الإحصاءات، أخطر بكثير من ركوب الطائرة.

أريد أن أصفعها على فمها، وفق ما تشير إليه الإحصاءات.

في حال الهبوط فوق المياه، وهذا شأنٌ قليل الحدوث،

في إمكانك أن تستعمل وسادة مقعدك كوسيلةٍ للتعويم.

فجأةً، تخيفني فكرة الجاذبيّة فأنزع وسادة مقعد الطائرة،

أسرقها وأركض بها عبر المطار،

يلاحقني عددٌ متزايد جدّاً من عناصر الأمن، رجالاً ونساء،

فأجد نفسي فخوراً جدّاً كون هذا المطار

قد تخطّى الفكرة الرجعيّة عن توزيع الأدوار بين الجنسين.

لكن، مهلاً،

ليس لديَّ وقت كي أكون ليبيراليّاً، عليَّ أن أركض بسرعة، لذا أركض بسرعة

وهذه الوسادة مشدودة بقوّة الى صدري.

لا أستطيع أن أركض بالسرعة الكافية وأنا بهذه الوضعيّة الحرجة،

فأنا رجل ضخم ويدايَ ضخمتان.

ليس في إمكاني أن أختبئ بسهولة.

ليس في إمكاني أن أختلط بالحشود متوارياً.

ليس في إمكاني أن أنحني وراء صندوق “البيرغر كينغ” وأسألكَ عن طلبيّتك، طلبيّتك، طلبيّتك.

آه، في حال الهبوط فوق المياه، وهذا شأنٌ قليل الحدوث،

في إمكانك أن تستعمل وسادة مقعدك كوسيلةٍ للتعويم،

وها أنا أركض، وأصلّي بينما أركض،

مع كلّ خطوةٍ أصرخ يا إلهي، يا إلهي، يا إلهي، ومع كلّ خطوةٍ أخرى أهمس آمين، آمين، آمين.

5

عندما كنتُ في السابعة من العمر، أخذتُ دروساً في السباحة في نادي “تجمّع الشباب المسيحي”، على أيدي ثلاث فتيات جميلات بَدَوْنَ نساءً بالنسبة إليَّ.

كنّ يعانقنَني بحنوّ حين يرونني واقفاً في الصفّ،

منتظراً دوري لمشاهدة فيلم “Jaws” في سينما فوكس وسط مدينة سبوكايْن.

هؤلاء الفتيات، أين هنَّ الآن؟ في مكانٍ ما، لقد أصبحن نساءً.

هل يتذكّرن تعليمي السباحة يوماً؟ هل يتعرّفْن الى وجهي عند مطالعتهنّ الصحف المحليّة أو عند رؤيتهنّ صورتي على ظهر كتابي الأخير؟

آه، يا للغرابة، يا لغرابة الأنا.

الآن، وجدتُ أنّني أريد أن يحببْنَني عن بُعد. أريد أن يُنكرْنَ حيواتهنَّ بكاملها لمجرّد أن كنّ يوماً سابحات في السادسة عشرة من العمر لا يتوقّفن البتة عن طبع قبلات متلهّفة على خدّ ولد في السابعة، فيما كنت أعوم من أعماق حوض السباحة صعوداً نحو السطح.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى