قطط سوداء في الثورة السورية!
فايز سارة
ليس من باب مديح الثورة السورية القول إنها امتلكت روحا هي الأقوى والأشجع بين ثورات الربيع العربي. ومنذ انطلاقتها في منتصف مارس (آذار) عام 2011، سعت الثورة بكل طاقاتها وأنشطتها لإبراز طابعها السلمي، وللتعبير عن نفسها باعتبارها ثورة لكل السوريين، وفي تبنيها لأهداف تستند إلى قواعد ترسم آفاقا تقوم على الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة. وفي هذا السياق العام، كانت شعارات الثورة وكانت أنشطتها الأولى من الاعتصامات إلى المظاهرات، إلى حشود تشييع الشهداء وتأبينهم، وقد استمرت تلك الروح سائدة طوال أشهر كثيرة من عمر الثورة، لم تتورع فيها أجهزة النظام ومؤسساتها العسكرية عن ارتكاب أفعالها الدموية في قتل وجرح واعتقال السوريين وتدمير ممتلكاتهم، رغم سعي متظاهرين لحصار تلك السلوكيات بإعلان تآخيهم مع عناصر الجيش والأمن، وتوزيع الورود ومياه الشرب عليهم في عدد من مواقع التظاهر والحراك الشعبي.
لقد تصادم السلوك السلمي للثورة السورية مع السلوك المسلح للنظام، وهو الأمر الذي يفسر سعي النظام إلى عسكرية الثورة منذ البداية، بالقول إنها مسلحة، وإنها مرتبطة بقوى خارجية اعتاد بعضها الصراع المسلح مع الدولة والشعب في سوريا، وهي إشارة كانت ضمنية إلى إسرائيل، وجرى التصريح بها لاحقا عندما أشير إلى رفع أعلام إسرائيلية في حمص، وإلى وجود أسلحة وعملات إسرائيلية في بعض المواقع اخترقتها القوى الأمنية والعسكرية.
لقد تجاوز النظام حدود الحرب الدعائية – الإعلامية ضد الثورة، إلى القيام بخطوات إجرائية في خطين، أولهما السعي إلى توزيع سلاح وذخائر في أكثر من مكان ولجهات متعددة؛ على أمل أن يصل بعض السلاح إلى مشاركين بالثورة، يقلبون وجهها السلمي – التوحيدي إلى وجه مسلح وتقسيمي له طابع ديني – طائفي، أو عرقي – مناطقي، وكانت الخطوة الثانية إطلاق عشرات آلاف من السجناء الجنائيين وربطهم بعناصر وضباط أمن في عملية هدفت إلى إثارة الفوضى والعنف داخل المجتمع، وتعزيز نزعة استعمال السلاح، وهكذا اكتملت الحلقات الأولى لشيطنة الثورة وإطلاق قطط سوداء في قلبها وحولها، بحيث يصير في ملامحها حضور للعنف الذي سيتطور إلى عنف منظم، وتقسيمات سكانية وسط حملات دعائية – إعلامية مركزة ومستمرة.
ومما لا شك فيه أن إطلاق قطط سوداء داخل ثورة السوريين، لم يكن ممكنا لولا عوامل نمت وتطورت داخل الثورة، ومعظمها كان نتيجة السياسات الدموية للنظام من جهة، ونتيجة تقاعس المجتمع الدولي عن تحمل مسؤولياته.
إن استمرار القتل في سوريا وتصاعد وتيرته ووحشيته مع غياب حل ما من شأنه إيقاف القتل والدمار، دفع الحراك للتوجه نحو التسلح والعسكرة، خاصة بعد أن قتل وجرح واعتقل وهجر النظام الرعيل الأول من القادة الميدانيين في الحراك الشعبي، ودمر حواضنهم الاجتماعية، ومنهم كثير من الأطباء والمهندسين والمحامين وأساتذة التعليم العالي والمتوسط، ورجال الأعمال ورجال الدين والوجهاء المحليين، وحل مكانهم شبان صغار من الطلبة والحرفيين والعاطلين عن العمل، ممن كانت خبراتهم الإجمالية ورؤيتهم لاحتمالات الثورة وآفاقها المفتوحة أقل بكثير مما كان عليه قادتهم السابقون.
لقد تعزز تصاعد العنف، ليس بسبب وجود التشكيلات العسكرية التي أسسها متطوعون مدنيون ومنشقون عن الجيش والأمن فقط، بل بدخول عصابات منظمة حيز العنف، سواء حملت أسماء أو من دون أسماء، ثم انضمت إلى ما سبق تشكيلات دينية، تمخضت في أحد تطوراتها عن جماعات سلفية جهادية. كانت جبهة النصرة في بلاد الشام أبرز تعبيراتها، كما ولدت تشكيلات عسكرية عرقية توزعت في انتماءاتها ما بين الوقوف في خندق الثورة أو الخندق المقابل، مما أدى إلى توسيع حدود العنف وانتشاره، وهو أحد الأهداف المبكرة للنظام في مواجهة الثورة, وتعميم العنف وانتشاره لم يكن قطة سوداء وحيدة في الثورة. بل ثمة قطة أخرى يمثلها نمو التطرف الديني والمذهبي. وبخلاف روح الألفة والتعايش، وهي سمة عامة للسوريين الموزعين على لوحة فسيفساء، تشمل ديانات ومذاهب وطوائف وجماعات قومية، فإن نزعة تشدد ديني إسلامي في ثلاثية السنة والعلويين والشيعة أخذت تظهر، وتترك ظلالها في أوساط الآخرين من الطوائف، وكان الأخطر في هذا التحول تزايد نفوذ جماعات الإسلام السياسي، التي كان حضورها محدودا أو غير مرئي قبل الثورة، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي، وجبهة النصرة في بلاد الشام، وقد توفرت مساندة مادية قوية للجماعات أهلتها لاستخدام المال السياسي لتأكيد نفوذها من جهة، وسعيها لإقامة تشكيلات عسكرية يمكن أن تثبت قوة تلك الجماعات حيث يفشل المال السياسي والدعوات الآيديولوجية عن ذلك.
ولا شك أن إطلاق وتصاعد العنف بالترافق مع صعود التطرف الديني والمذهبي، يمثلان تعبيرا واضحا عن تدهور فكري وسياسي في مستوى المجتمع من جهة، وفي مستوى النخبة، وخاصة النخبة السياسية. ولعل أبرز التعبيرات عن التدهور الفكري والسياسي، يمثله تراجع ظاهر لشعارات الثورة الأولى، ومنها شعار السلمية، ومثله شعار وحدة السوريين في سياق الثورة ومن أجل المستقبل، وهو ما ترافق مع صعود شعارات ذات طابع ديني، وهي بالضرورة شعارات فئوية لا تنسجم مع الروح العامة لشعارات الثورة، ولعل الأبرز في تلك الشعارات شعار الدولة الإسلامية، ومثله شعار استعادة دولة الخلافة، وكلاهما لا يتصل بديانة السوريين المعروفة بانفتاحها وتسامحها بقدر ما يتصل بالعمل على أسلمة الدولة، وهو أمر لم يخرج إلى سطح الحركة الفكرية للمجتمع السوري منذ تأسيس الدولة السورية أواسط ثلاثينات القرن الماضي، ولم يتعدَّ في أي مرحلة سابقة أحاديث نخبة محدودة من إسلاميي «الإخوان» والتحريريين.
إن مخاوف كثيرة باتت تحيط بالثورة السورية، وهي ثمرة حقيقية لثلاثة عوامل: سياسات النظام، وبؤس النخبة، والإرث الثقافي والاجتماعي، وهي العوامل التي كانت في أهداف ظاهرة وباطنة لثورة السوريين، وقد أدى تأخر انتصار الثورة إلى التحولات السابقة، مما يشكل تهديدا للإنجازات العامة للثورة، ليس فيما يتعلق بإسقاط أو تغيير النظام (فهذا صار أمرا لا نقاش فيه)، إنما بما يتصل بالموضوعات الأخرى، وأبرزها تعميم العنف وانتشاره، والتطرف الديني والمذهبي، والتدهور الفكري والسياسي، وكلها تمثل قططا سوداء في قلب الثورة تسعى إلى شيطنتها، بخلاف طبيعتها الإنسانية إلى أبعد الحدود.
الشرق الأوسط