صفحات الثقافة

كارلوس فوينتيس النجم المكسيكي الذي هوى وما زال يضيء إمبراطورية الأزتيك/ محمد محمد خطابي* *

 

 

في الحادي عشر من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم (2014) مرت الذكرى السادسة والثمانون لميلاد الكاتب المكسيكي الكبير كارلوس فوينتيس، الذي كان قد ولد في هذا التاريخ نفسه من عام 1928، وتوفي في 15 مايو/أيار 2012 .

يعتبر كارلوس فوينتيس من أعظم الكتاب المكسيكيين المعاصرين، الذي حلق عالياً في سماء الآداب الناطقة باللغة الإسبانية لمدة عقود كثيرة خلت، سواء في أمريكا اللاتينية، أو في إسبانيا، بل إن شهرته تخطت هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة إلى العالم، وما فتئت أعماله الأدبية ورواياته الإبداعية ودراساته الرصينة تملأ الدنيا وتشغل الناس، وما انفك نجمه يضيء إمبراطورية المايا والأزتيك.

رحلة إلى الأساطير القديمة

لكارلوس فوينتس كتابٌ تحت عنوان «شموس المكسيك الخمس» وهو نوع من الأنطولوجيا أو دراسة مستفيضة حذا فيها حذو كتاب آخرين مثل ألفونسو ريجيس وأوكتافيو باث، وكان الهدف من وراء هذا العمل الأدبي هو اكتشاف روح المكسيك، واستكناه أغوارها وأعماقها، وتسليط الأضواء على تاريخها وأساطيرها ومعاناتها، بدءا بعالم الأزتيك والمايا، حيث يأخذنا فوينتيس في جولة تاريخية نقدية تحليلية لمختلف الأساطير القديمة في بحر تاريخه، وتأمل أهراماته التي أقامها المايا الذين أصبحوا بعد الاكتشاف (الغزو) يؤلفون مجتمعا مركبا تركيبا معقدا ومجزءا في وقت واحد، وهم يدخلون عالم الثورة المعاصرة. مشاهد تترى نصب أعيننا من الدم والموت منذ وصول الإسبان إلى العالم الجديد، ويطلق المؤلف على ذلك مصطلح «ضد الاكتشاف»، أو «الاكتشاف المناقض والمناهض للاكتشاف». ويشير فوينتس إلى: «أن غارات كتائب سانشو فييا في شمال البلاد، ومحاربي إميليانو زاباتا في الجنوب جاءت رد فعل عنيف على موت شمس المكسيك الخمس، حيث مات معها العالم المكسيكي للسكان الاصليين الهنود. وهذه الشموس الخمس مستمدة من الأساطير المكسيكية القديمة».

في البحث عن الهوية الضائعة

وبخصوص المزج بين الرواية والتاريخ في كتابه، أشار كارلوس فوينتيس إلى طرفة وقعت للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز وفيردريك فورسايت، بخصوص رواية هذا الأخير «ابن آوى»، فقد هنأ ماركيز فورسايت على روايته ولكنه حذره من: أن الكتاب يتضمن خطأ فادحا. فسأله فورسايت: ما هو؟ فأجابه: أن ديغول لم يقتل. فأردف فورسايت قائلا: «حقا إن الجنرال قد خرج بسلام من عملية الاغتيال، فقال ماركيز عندئذ: آه، ولكن إذا كنت قد قلت في روايتك إنهم قتلوه بعد مرور مئة سنة فتلك ستكون الحقيقة.

وقال فوينتيس إذا كان الكاتب الفرنسي ميشيليت قد قال: إن الشعب له الحق في أن يحلم بمستقبله، فإنني أقول إن الشعب له الحق كذلك أن يحلم بماضيه. أن تحلم بالماضي، أن تجعله حيا أمامك. إن فوينتس مقتنع بأنه ليس هناك حاضر حي، ولا ماض ميت.

ويشير في كتابه إلى أنه عندما كان يحاضر في جامعة هارفارد الأمريكية كان يحدث تلامذته الأمريكيين عن تاريخ المكسيك وسكانها الأقدمين، فكان يعود بهم إلى تاريخ الإغريق والرومان فكانوا يقولون له: لماذا تذهب بعيدا؟ فكان يسألهم إذن متى يبدأ التاريخ بالنسبة لهم؟ فكانوا يجيبون جميعا 1776 أي أن تاريخهم يبتدئ بعد الاستقلال، استقلال أمريكا، وقبل ذلك فليس هناك تاريخ.

إن التاريخ حسب فوينتيس يقوم على المنطق، في حين أن الأدب ينطلق من المشاعر والأحاسيس، والادب يسمح للشعوب، بل يحثها على أن تحلم بماضيها، والحفاظ عليه حيا نابضا.

ذنب الأمس وأخطاء الماضي

للكاتب الراحل مجموعة قصصية بعنوان «كونستانسيا وقصص أخرى للعذارى» هذه المجموعة تجمع العديد من أعمال فوينتيس، إننا واجدون فيها فوينتيس السوريالي منذ قصصه الأولى التي تناول فيها قصص الهوية المكسيكية، مثلما عمل كل من أوكتافيو باث، وصمويل راموس، كما نجد في هذه المجموعة فوينتيس نفسه المثقل بالهواجس والقلق والانشغالات التي صاحبته في مختلف أعماله، فنلتقي بالتالي بالموت ومدينة مكسيكو، والشرائح الاجتماعية المختلفة ونوازع الخير والشر.

نظرة فوينتيس في هذه المجموعة اتسمت بالجدية والجديد، وقد راعى فيها التحولات السياسسة والاجتماعية للمجتمع المكسيكي والأمريكي والإسباني. وهو يتناول هذه التحولات بالتحليل الدقيق ليس للأوساط والثقافات المذكورة وحسب، بل بقدرة فائقة على تعرية أوجه ثقافات أخرى ورصد ملاحظات ذكية، سواء في ما يتعلق بأفراد أو جماعات أو بلد أو قارة، العنوان في حد ذاته «كونستانسيا وقصص أخرى للعذارى» يبين أن المرأة تشكل عنصرا مهما فيها، وهكذا نجد كونستانسيا تتأرجح بين الحياة والموت، كما نجد المرأة تموت في قصة «أمير لوماس» أما «عاشت سمعتي» فتقدم لنا نصاً أكثر قلقا وعمقا ضمن المجموعة. المرأة إذن في هذه القصص مسكونة بالموت، ليس كمصير فردي، بل كعنصر متصل. فالموت هو التفصيل المباشر للحياة أو الجانب الآخر لها. كما تولي المجموعة قيمة كبرى وأهمية قصوى للمعارف الغيبية. إلى جانب العلم، تلك المعارف لا تأتينا من إعمال العقل المباشر، بل من الجوانب العميقة أو الدفينة فينا، أو من ماضينا البعيد أو من تاريخنا الغابر السحيق.

ويعتبر عنصر الزمن جانبا آخر ذا أهمية في هذه القصص، وليس المقصود هنا بالزمن المتوالي، بل زمن لا يخضع للقوانين الفيزيائية، ولا ينصاع للنواميس الطبيعية. فالأمس يلج في اليوم محطما كل الحواجز، وهذا المزج يخلق جوا من الغموض والسحر، ويظهر لنا هذا في قصة «عاشت سمعتي»، إذ نجد شخصيتين تاريخيتين متباعدتين في زمن وجودهما (روبين أوليفيا في القرن العشرين) و(بيدرو روبيو في القرن الثامن عشر) يلتقيان في وقت ما من الزمن. كما نجد كونستانسيا في القصة تحمل الاسم نفسه ، مع أنها تنتمي إلى زمنين متباعدين، زمن الحرب الأهلية الإسبانية، والزمن الحاضر. يطرح فوينتيس علينا في هذه النصوص التساؤل التالي: هل يوجد في الأمس ذنب ينبغي التكفير عنه؟

رولفو وفوينتيس

على إثر صدور كتاب كارلوس فوينتيس «العالم الجديد الشجاع» (الحماسة، الخيال، والأسطورة في الرواية الأمريكية اللاتينية) بعث الكاتب المكسيكي غيابا تيستافيكو برسالة إلى فوينتس يعاتبه على بعض الآراء الواردة في نصوصه حول الكاتبين المكسيكين الكبيرين خوان رولفو وماريانو أسويلا، حيث لم يكن رولفو يخفي غيضه بشأن بعض هذه الآراء التي كان يراها متطرفة في الغلو حول بعض أعماله وأعمال أسويلا، فعندما أفرد فوينتيس في هذا الكتاب ما يزيد على عشرين صفحة من النثر الوضاء حول رواية «بيدرو بارامو» الشهيرة، انزعج رولفو قائلا: لقد حول فوينتس «بارامو» إلى شخص رومانتيكي يموت نتيجة الجرح الذي فتحه في حبه المستحيل لـ:»سوزانا سان خوان»، لقد راقني هذا الاجتهاد، إلا أن ذلك غير صحيح، فبيدرو بارامو إنما قتله عداؤه لنفسه ذاتها، إنه رجل يكره الجميع وهذه الكراهية التي تغلفه انقلبت ضده فيقتل فوق الأرض نفسها، التي طالما زرع فيها بذورالأحقاد والضغينة على امتداد عقود من القساوة والاستبداد.

ويعتب رولفو على الخيالات والتوهمات المتشابهة في نصوص فوينتيس، إذ هو لا يمكن أن يكون بالضرورة عالما بشؤون التربية والأمراض التي تفتك بالإنسان، إلى جانب علو كعبه في الفن الروائي. كما ذهب فوينتيس في هذا الكتاب إلى أن رواية «القاطنون في الأسفل لأسويلا» هي «ذات حماسة منحطة»، فهي تكرر الحماسة على طريقة «السيد» نفسها. وكان رولفو يستشيط غضبا إذ لم يكن يؤمن بأن «أسويلا» يمكنه قول ذلك، فهو أبعد ما يكون عن هذا الهراء أو الوقوع في هذا الإسفاف.

يذهب فوينتيس في كتابه إلى: أن «سانشو فييا» يظهر في «القاطنون في الأسفل» مثل «السيد» من نوع جيد أو مثل نابليون مكسيكي، في الوقت الذي يقول فيه أن «فييا» إنما هو صقر أزتيكي ينقض ويغرس منقاره الفولاذي في رأس الأفعى «فيكتوريا نوويرتا». والمغزى هنا ذو سخرية عميقة فأسويلا في الواقع إنما كان يضع قدميه في حقل ملغوم لمواجهة أنصار «فييا» الذين كانوا يسيطرون على مدينة «خواريث». ولا يتعلق الأمر بإزاحة أصنام، أو استبدالها بأخرى وإنما كان أسويلا يساهم في تأجيج أوار الثورة، وكان فوينتيس خاطئا: هذا ما قاله رولفو نفسه عندما كان على قيد الحياة (توفي 1986).

فوينتيس شيلي ونيرودا

كان فوينتيس يشعر بمحبة وميل كبيرين لتشيلي ليس فقط باعتبارها موطن الشاعر الكبير بابلو نيرودا، بل بحكم أنه عاش فيها ردحا من الزمن، خاصة في سنوات عمره الأولى كما يقول.

فوينتيس والإشعاع الإسلامي في الأندلس

يشير كارلوس فوينتس في مجال التأثير العربي والإسلامي في إسبانيا في كتابه «سيرفانتيس أو نقد القراءة» الصادر عن دفاتر خواكين مورتيت (ميكسيكو1976) إلى «أنه من العجب أن نتذكر أن الثقافة الهيلينية وكبار المفكرين الرومان الضائعين عمليا في المناطق الأوربية قد استعادوا مواقعهم وحفظت أعمالهم بفضل ترجمتها إلى اللغة العربية، فضلاً عن العديد من الابتكارات العلمية والطبية، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا مريضة ويتم علاجها بواسطة التعزيم والرقية والتعويذ». ويضيف: «فعن طريق إسبانيا المسلمة أدخلت إلى أوروبا العديد من أوجه التأثيرات الهندسية المعمارية الموريسكية، حيث أصبحت في ما بعد من العناصر المميزة لخصائص الهندسة القوطية»، وعندما يتحدث فوينتيس عن هذا الموضوع فإنه يضع أمامه العديد من نماذج المعمار في بلاده المكسيك التي ظهرت فيها الخصائص ذاتها التي تستمد أصولها من المعمار العربي الإسلامي.

كان فوينتيس من أهم الروائيين في المكسيك وفي أمريكا اللاتينية في القرن العشرين على الإطلاق، وتعتبر أعماله الروائية والنقدية أساسية في تاريخ بلاده المكسيك وإسبانيا، خلف لنا ما يربو على عشرين رواية. تقلد كارلوس فوينتيس عام 1975 منصب سفير لبلاده المكسيك في فرنسا، ثم سرعان ما طلب إعفاءه من هذا المنصب عام1977، احتجاجا على سياسة بلاده.

كان صديقه الكاتب الكولومبي الكبير ألفارو موتيس الراحل قال عن رحيله: «إن وفاته كارثة عظيمة بكل المقاييس، وقال عن وفاته كذلك العالم رينيه دروكر: «إن فقدانه ضياع رجل عظيم، لقد كان له تأثير كبير في مختلف الأوساط في بلده وخارجها ليس في مجال الأدب وحسب، بل في السياسة أيضا، إذ كان لمواقفه كمفكر تقدمي أبعد الآثار، كان من أبرز رجالات المكسيك في العقود الستة الماضية». ويرى دروكر أن كتاب فوينتس «الجهة الأكثر شفافية» يعتبر من أعظم أعماله الأدبية، بل هناك من يعتبره قمة من القمم الأدبية في المكسيك، بل حجر الاساس ليس في الادب المكسيكي فقط، بل في تاريخ الأدب قاطبة.

حصل فوينتس على العديد من الجوائز التكريمية والأدبية من مختلف بلدان العالم، منها جائزة «سيرفانتيس» التي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الإسبانية (1987)، وجائزة « أمير أستورياس» في الآداب (1994) في إسبانيا كذلك، والجائزة الوطنية المكسيكية في الآداب عام (1984) وسواها من الجوائز الاخرى.

*كاتب من المغرب ـ غرناطة

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى