صفحات الرأي

“كانط” ومعضلة القاتل…حجة استثنائية


أمبرتو إيكو

منذ فترة ليست ببعيدة، وسيراً على خطى “جوناثان سويفت” والكتيِّب الذي أصدره عام 1712 بعنوان “فنون الكذب السياسي” (The Art of Political Lying)، كتبتُ عن كبار الكاذبين وتطرَّقتُ إلى الجدل القديم بين المعتدل والمتشدِّد. يقرّ الأول بأنه يصحّ في النهاية التفوُّه ببعض الأكاذيب (في مصلحة الدبلوماسية وعلى سبيل المجاملة)، فيما أن الثاني أصرَّ دوماً على عدم الكذب، ليس حتى بهدف إنقاذ حياة إنسان.

لقد طرح معضلة “القاتل الذي يطرق باب بيتك” التقليدية، القديس أغسطينوس الذي يُعدّ من المتشدِّدين: يلتمس شخص مسكين اللجوء إلى بيتك قائلاً إن سفَّاكاً مخيفاً يبحث عنه لقتله، وأنت توافق على إخفائه في منزلك. بعد فترة قصيرة، يصل القاتل ويسألك عن مكان وجود الرجل الذي يبحث عنه.

ماذا تفعل؟ إن المنطق السليم يدعونا إلى الكذب وإخبار القاتل إننا إما لا نعلم مكان وجود الرجل الآخر، أو إننا رأيناه يسير في اتجاه آخر. ولكن المتشدِّد يقول إنه طالما أن الكذب ممنوع بأي حالة من الأحوال، عليك الاعتراف للقاتل أن ضحيته المقصودة مختبئة في منزلك.

ومع مرور الوقت، تبدَّلت بطبيعة الحال الأعراف وتبدو هذه المعضلة أقل حدةً في أيامنا هذه – إذ قد يكتفي الشخص بكتم معلومات عن القاتل، من دون أن يكذب بشكل صريح. وعلى الرغم من ذلك، لم يتزحزح المتشدِّدون عموماً عن معارضتهم المخلصة لعدم الكذب.

ويذكِّرنا هذا بالفيلسوف “إيمانويل كانط”، أحد أشهر دعاة الموقف المتشدِّد والمناصرين له، فكانط كان أحد أعظم العقول في تاريخ الفلسفة. ولكن أحياناً، شأنه شأن “هوميروس”، أدلى بتصريحات لا تزال تثير فينا الحيرة والدهشة حتى يومنا هذا. ومن بين أشهرها كان تنديده بالموسيقى معتبراً إياها من الفنون الوضيعة، في أحد مؤلفاته بعنوان “نقد ملكة الحكم”

(Critique of Judgment) الصادر عام 1970.

وكتب أن الموسيقى ليست سوى فنّ “مستحبّ” لأنه “يؤثر فقط في الأحاسيس”، وذلك بخلاف الفنون “التشكيلية” على غرار الرسم والنحت والهندسة، التي تترك “انطباعاً دائماً”. كما أشار إلى أن الموسيقى تزعج كل من لا يرغب في الاستماع إليها: وقد قارنها بالمناديل المعطَّرة التي كان يحملها الرجال في جيوبهم فيما مضى ويسحبونها بين حينٍ وآخر مرغمين كل من يحيطهم باستنشاق رائحتها قسراً.

ولكن، في مسألة القاتل الذي يسأل إن كانت ضحيته المقصودة تختبئ في منزلك، عرض “كانط” حجة استثنائية. وفي كتابه “الحق المفترض للكذب بدوافع حبّ الآخر” (1797)، قال: “إن تمكَّنتََ من خلال الكذب أن تحول دون حصول جريمة، لقد جعلت نفسك مسؤولاً عن كل العواقب التالية، ولكن إن التزمت قول الحقيقة بصرامة، لن تتمكَّن العدالة العامة من إلقاء القبض عليك، مهما كانت العواقب اللاحقة غير المترقبة. وبعد أن أجبت بصراحة على سؤال القاتل حول ما إذا كانت ضحيته المقصودة في منزلك، قد تكون هذه الأخيرة تسلَّلت إلى الخارج كي لا تقع في أيدي القاتل، والجريمة لن تُقترف بالتالي”.

وتابع حجته: “ولكن إن كذبت قائلاً إن الشخص لم يدخل منزلك في الوقت الذي تسلَّل منه فعلياً من دون علمك، وإن وجده القاتل لاحقاً بعد مغادرة منزلك وقتله، قد تُتَّهم على نحو عادل أنك سبب موته. والحال أنه لو قلت الحقيقة تماماً كما تدركها، لكان جيرانك تمكَّنوا ربما من إلقاء القبض على القاتل في الوقت الذي كان يبحث داخل منزلك، وهكذا، كان يمكن تجنُّب حصول الجريمة. وبالتالي، أياً كان الشخص الذي يتفوَّه بكذبة، ومهما كانت النوايا حسنة من ورائها، عليه أن يكون مسؤولاً عن العواقب، مهما كانت غير مرتقبة، ويُعاقب عليها حتى في محكمة مدنية”.

أرجو أن “كانط” الصالح لم يُعاقب أبداً على تفوّهه بكذبة “بدوافع حبّ الغير”. أما بالنسبة إلى إيمانه بأولئك الجيران الافتراضيين، فلو كانت لديهم الشجاعة ذاتها التي يتحلَّى بها كانط، لكانت الضحية المقصودة مصيرها الموت.

ما هو السبب الذي يدفعني إلى سرد هذه الرواية التي كان من المفضَّل أن أبقيها طيّ النسيان (احتراماً لإرث كانط)؟ يُذهلني دوماً الغباء، ولكن حين تظهر تجليَّات الغباء في كتابات رجال عظماء حقاً، يشابه الأمر ظهور رؤية ما يمكن اعتباره عزاء لنا نراه في حقيقة مفادها بأنه حتى العباقرة قد يتفوّهون بكلام فارغ، تبعث مواساة عظيمة لبقية البشر، الذين يشكِّكون في صوابهم كل يوم.

أومبرتو إيكو

روائي إيطالي

ينشر بترتيب خاص مع خدمة “نيويورك تايمز”

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى