كان يا مكان: أفلام من سوريا في أمسية بيروتية: كأننا ذهبنا الى تظاهرة.. لا إلى السينما
يوسف بزّي
انتشر خبر الدعوة عبر حوائط الـ”فيسبوك”، ورحنا بدورنا ننشره، تماماً كما هي حالنا هذه السنة مع أخبار الثورات والانتفاضات العربية ويومياتها الكثيفة واللاهبة. فحوى الخبر: مساء الثلاثاء 7 حزيران أمسية سينمائية في مسرح دوار الشمس في بيروت، تحت عنوان “كان يا مكان: أفلام من سوريا”. وصرنا نضيف تعليقات من نوع “فعل متعة وفعل تضامن” أو “لن نتأخر” و”أكيد جايين” و”سننضم الى المندسين”، عدا طبعاً عن العشرات الذين يكتفون بـ”آي لايك” (أعجبني).
الدعوة في نصها كانت أيضاً صريحة مثلما تكون اللغة التي نقرأها على الـ”فيسبوك”، فهي “في سياق سلسلة التحركات الداعمة لثورة الشعب السوري من أجل الحرية”. فالصحف البيروتية مصابة بالخجل وبالنبرة الديبلوماسية المواربة في كل ما يتعلق بسوريا إذا استثنينا بعض الأقلام الشجاعة كذلك هي حال الأحزاب والتيارات السياسية، عدا تلك “الممانعة” الملحقة بنظام البعث، والتي تعيش حال “طوارئ” كما أجهزة الحكم السوري، مستنفرة في شوارع بيروت لقمع كل ما من شأنه أن يُظهر تضامناً أو دعماً لانتفاضة الشعب السوري.
هناك عند مدخل المسرح حيث كنا نتجمع منتظرين الدخول الى الصالة، صرنا نصافح بعضنا البعض، نحن الذين لا نعرف بعضنا البعض إلا كـ”أصدقاء” فيسبوكيين. تقترب سيدة مثلاً وتقول “عرفتني؟ أنا فلانة” فأتذكر صورتها واسمها على حائطي، بل وأتذكر أيضاً تعليقاتها اليومية. يحدث هذا لجميع من هم حولي. وحتى أننا نحن الأصدقاء من المعارف والعشرة والزمالة بتنا نباشر كلامنا، من فور لقائنا، باستئناف ما توقفنا عنده على الـ”فيسبوك”، حازم مثلاً ليس عضواً في مجتمع الـ”فيسبوك”، مع ذلك كان يتعرف على قرائه الذين هم من غير قراء الجرائد، أولئك الشبان المنكبين على الـ”لاب توب” ليلاً ونهاراً، وأحمد بيضون “الناشط” الفيسبوكي كما ينظرون إليه الآن من غير الذين يعرفونه، وحسن داوود المندهش من هذه “العلاقات” المستجدة لأصحابه مع أناس لا يعرفهم هو: “كل هؤلاء تعرفونهم على الـ”فيسبوك”؟”. ما عاد أحد يسأل الآخر ما هي أخباره وأحواله، أو لماذا مرّت أيام من غير لقاء، طالما أن الجميع “يلتقون” باستمرار عبر الإنترنت، وأحياناً يقضون كل الوقت “سوية” هناك على الحائط الإلكتروني.
بين الدعوة والاستجابة لها واللقاء، شعرنا أننا هكذا نقوم بما قام به شباب تونس ومصر واليمن، وكما يفعل الآن شبان وشابات سوريا. إننا هكذا مثلهم، تقريباً، “ناشطون فيسبوكيون” ننظم كما نص الدعوة سلسلة تحركات داعمة لثورة الشعب السوري. على هذا النحو أوهمنا أنفسنا بأننا حقاً متورطون في قلب الثورة، طالما أن الثورة نصفها يحدث على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ونصفها الآخر في الشارع. بل إن بعضنا كان يتوقع أن يأتي الآخرون، النسخة اللبنانية من “الشبيحة”، كما فعلوا في مناسبات أخرى ببيروت، هذا التوقع وهبنا جرعة إضافية من وهمنا أننا “ناشطون” حقيقيون في قلب الحدث.
المناسبة التي كانت في سنوات سابقة مجرد أمسية “ثقافية” اعتيادية كما حال أنشطة المراكز الثقافية والمسارح، كانت على الأصح فعلاً سياسياً، أو هي مباشرة للسياسة عبر فعل ثقافي. فالأمسية تخللها عرض لثلاثة أفلام من سوريا هي “طوفان في بلاد البعث” (2003) للسينمائي الوثائقي الراحل عمر أميرالاي، و”نجوم النهار” (1988) لأسامة محمد، و”النهاية” (2011) لمجموعة “أبو نضارة” الشبابية المنخرطة في الحراك الجديد والناشطة ببث شرائط الفيديو على موقعي “يوتيوب” و”فيسبوك”، بالإضافة الى رسالتين موجهتين خصيصاً لجمهور الأمسية، واحدة مصوّرة لهالة العبدالله يمتزج فيها العتب مع الحب، وفيها الكثير من المكاشفة والمصارحة اللبنانية – السورية، والثانية للمخرج أسامة محمد تلاها أحمد بيضون (راجع “نوافذ” هذا العدد).
إختيار الأفلام، حسب نص الدعوة، “يتماشى مع انحيازنا إلى المطالين بحريتهم في سوريا وفي كل العالم العربي”. وعليه نحن لم نأت لـ”نتفرج” بقدر ما كنا نؤلف بياناً سياسياً بمادة ثقافية، أو كأننا نؤلف تظاهرة سياسية بلغة سينمائية. فالفعل الثقافي راهناً بات في عرفنا إنما هو الذي يستمد شرعيته ومبرره من موقفه الأخلاقي والأدبي تجاه الحدث السياسي، عدا ذاك هو عمل بلا “أثر” وخارج الحساسية التاريخية. وبمعنى آخر فان عودة الثقافي إلى السياسي تغدو اليوم شرطاً لكل خطاب ولكل ممارسة.
فيلما أسامة محمد وعمر أميرالاي بمضمونهما الثوري والرؤيوي، وبوصفهما رثاء لدولة البعث ونقداً مريراً للنظام السوري وأفاعيله في المجتمع والعمران.. لم نكن نتفرج عليهما، انما كنا بمعظمنا نشاهدهما للمرة الثانية أو الثالثة. كنا هكذا نتعمد “المشاهدة” هذه المرة على أنها انحياز وإعلان موقف، وأكثر من ذلك، كنا هناك في الأمسية نتبنى “المضمون” السياسي الذي نقتبسه من رؤيتي اميرالاي ومحمد السابقتين على الثورة والمستمرتين فيها. وهذا ما تبدى حين سمعنا وشاهدنا رسالة هالة العبد الله التي طالبتنا عن حق بأن تكون بيروت أكثر قرباً لانتفاضة الشعب السوري.
حين اعتلى أحمد بيضون المنصة ليقرأ رسالة اسامة محمد، بدت تلك القراءة من “شيخ” المثقفين اللبنانيين، أقرب الى المشاركة في تأليف الرسالة أو المشاركة في معناها وغرضها، هو والجمهور معاً.
ثلاث ساعات تقريباً ونحن أمام صورة سورية، الطوفان عند أميرالاي، والتمزق عند محمد.. ثم مشهد النهاية مع فيديو “النهاية”: جدارية الشعب السعيد الذي يقوده حافظ الأسد، تتحول إلى ستارة سوداء تنزل عليها بلا توقف ولا نهاية أسماء الشهداء الذين يسقطون اليوم في شوارع درعا وبانياس وحماه وحمص وجسر الشغور.. جدارية الدم.
هكذا حسبنا أنفسنا أننا ذهبنا إلى تظاهرة.. لا إلى صالة سينما، واننا صرنا “نشطاء” كما يجب على الشبان والمثقفين والفيسبوكيين أن يكونوا اليوم في المدن العربية.
المستقبل