كتابة السياج
علي البزّاز
لا ريب أن ثمة اتجاهاً عزيزاً نحو المكافأة يجول تفكير كلّ كتابة. لا بأس بوجود الاتجاه هذا، لكن الخلاف هو في سيطرته الواعية على كينونة الكتابة. لا أحد ضد المكافأة ولا ضد النفعية. كلّ كتابة هي مصلحة ومنفعة متبادلة بين الكاتب ومحيطه. من يعترض على المكافأة، يسير ضد ارادة الوجود وحركة التاريخ. الكتابة هي تبادل بين الكاتب والقارئ، وفي هذه المقايضة توجد مصلحتها التي تومِّن لها البقاء. إنمّا الجوائز هي غير المكافأة. تبدو كتابة السياج مشغولة تفكيراً بالجوائز، وهي هدفها النهائي ونتيجتها الحتمية. للجوائز شروط ولجنة شروط تشبه دائرة حدود، وعلى الكتابة التمدد داخلها، وهنا ضعفها.
الذهاب مباشرة إلى النتائج يجعل النتيجة دليلاً ويهمل الوسطاء؛ القارئ ومسارات الكتابة. عندئذ، يكثر الحديث عن الأدلاء والأعداء والثوابت. الدليل بوصفه صديقاً، العدو تهديد خارجيّ، والثابت يصون النهج ويظفر بعلاقة جد محدودة. علاقة فوز لا تمنحها سوى سلطة الدولة، سلطة لجنة مشكّلة بإشراف رسميّ تقاوم الاشتباه ويتغلب السياج فيها: يحجب ويستر.
هناك دائماً في هذا النوع من الكتابات افتراض عداوات وصداقات، يتلاءم مع شكل السياج وغايته: الحماية يوفّرها الصديق، العداوة ناتجة من قلق الانكشاف وتعريض الكتابة إلى النقد والمساءلة. السياج كبناء، هو حماية داخل حماية، حماية مركبة. فكرة حمائية أولاً، فيجب أن تكون غير مرئية في نظامها الأمني. هي وجود من الحديد، هذه الطبقات تعني سيكولوجيا تستّر. لا يُعدّ الشفّاف سياجاً، لافتقاره الى البناء المركّب، أي ذلك الذي يتكون من طبقات حُجب وتمويه. قوة السياج في قوة طبقاته، واحدة منها طبقة السلطة.
كتابة النتائج
السياج كفكرة تنطلق من الخارج إلى الداخل، من السور إلى المنزل، وليس العكس. لا تقبل كتابة السياج خلاف ذلك، وترفض محاولات عكسها، وهنا تكمن خطورتها، في اعتمادها السياج أساساً، وعليه تمتلك ثابتين لا تنفك عنهما: الأساس والقاعدة، وهما واحد لا يتعدد. الصديق في مفهموم كتابة السياج، هو الأمين والأنيس، الحامي والناصح. العدو من يقف ضده. لن تستثمر هذه الكتابة قلب مفهوم الصداقة. يقول بن هندور عن الصديق هو: “إنسان لا يظهر، هو أنت إلاّ أنه غيرك”. فالصديق ليس مرئياً إذاً، والمرئي الذي يجالسنا ونثق به هو العدو بالمفهوم التقليدي. ما فائدة الصديق إذاً، إذا كان يبذل الحماية، ويجعلنا في طعم العسل، فلا نشتاق إلى الطعم المرّ والكتابة المرّة. أناقش الصديق إبداعياً وأتغافل عنه اجتماعياً، لأنهما يجب أن يفترقا، الواحد عن الآخر، الصديق الاجتماعي والصديق الإبداعي. مأساة كتابة السياج هي في جعلهما يتطابقان ويتجانسان. ثمة منع من السلطة، مانحة الجوائز، من اعتبار الأنيس هو في فكرة السراب. السراب ممنوع. التصادي ممنوع أيضاً من السلطة. الصديق سراب، وإن بدا غير ذلك. لا يظهر كحماية مباشرة بل كتهديد يدفع إلى البحث عن الحماية. هكذا، هو حماية من باب التهديد كحال العدو. فكرة العدو إبداعية مناقضة لكتابة السياج، تسعى دائماً إلى الإتّحاد، أحياناً بالصديق وتارة بالسلطة. ألا يشبه الصديق السلطة من باب الحماية؟
الثابت يقترن بالثابت شكلاً ومضموناً في إتّحاد مصيري. بزواله يتفكك وجوده التابع والمرتبط بالقديم. كل ثابت قديم. تقاوم السلطة، كما السياج، كما كتابة السياج، فكرتي الانفصال والراهنية، متشبثة بالهوية والماضي، قرينَي الثبات لديها، وطريقَي المحافظة على الجمهور عند السلطة، وعلى القارئ عند كتابة السياج. ثمة هوية واحدة في أدبياتها وليست هويات. تراث تليد وجمهور تليد. السلطة، كما الصديق، نظام حمائي خارجيّ، لذا تستنجدُ بالغزو محافظة على حضورها، بخلاف النظام الحمائي الذاتيّ. غدر الصديق، يستدعي طرده من العشرة. لكي يتحقّق هذا الطرد، لا بدّ من فكرة الغزو؛ استدعاء العامل الخارجي طارداً الحماية الخارجية الملفقة، تماماً كالسلطة التي تستعين بقوة خارجية معاونة. لا تعني هذه القوة الغريب البتة، إنّما تفاهم خارجيّ اسناديّ. حيثما يكون طرد الغريب واجباً، يسود مفهوما الدولة والصديق. هما يقاومان الغريب: الصديق بوصفه ألفة وتعوّداً ضد الغربة، والدولة حامية الوطن من الغرباء والعدو الخارجي. الأفظع من ذلك، كتابة السياج التي تستفيد من كلا المفهومين؛ الدولة والصديق.
تقول الأسطورة السومرية أن جلجامش هام على وجهه طالباً عشبة الخلود بعد موت أنكيدو، باحثاً عن مفهوم آخر للصداقة وليس عن الصديق أنكيدو. حضّه موت الصديق على البحث عن المفهوم بعيداً من الصديق ككينونة اجتماعية. هذا البحث أعطى الأدب متمثلاً في ملحمة جلجامش التي تبدأ: “هو الذي رأى كل شيء فغنّي باسمه يا بلادي”. ثمة قراءات متنوعة لمفهوم الصداقة في هذا البيت الشعري. إذ بموت أنكيدو، يكف الصديق عن الحضور اجتماعياً، محرّضاً جلجامش على البحث عن مفهوم مختلف للصداقة، هو الخلود، متخذاً صفة الرحلة. الصداقة موقتة لا تملك آلية المداومة بينما العداوة أزلية لأنها إبداعية وذاتية التجدّد. إذاً، الصداقة ليست الثبات، إنّما الرحيل. مغادرة حالة والنزول عند أخرى، وهي مسارات تؤدي في النهاية إلى تجارب متنوعة “رأى كل شيء”. يحفّز موت الصديق في الملحمة التجّدد والكتابة والرؤيا. لولا الموت لبقي جلجامش متحفاً للتاريخ لا غير. الموت هنا العدو المتغلب على الصديق. يتغلب الموت واضحاً في الملحمة على الصداقة والصديق بالمعنى السائد المريح: تلتهم الحيّة عشبة الخلود، تلتهم الحياة/ الصديق، يسافر جلجامش حائراً تاركاً الأرض الأولى مهد الصداقة والطمأنينة. هكذا ينجب العدو الذي هو الموت، ملحمة جلجامش. الصديق لا ينتج الأدب إلاّ عندما يتغير مفهومه، وربما يتقمص صفات العدو. كذلك الدولة وكتابة السياج، لا تنتجان الأدب بسب عدم تقمصهما مفهومَي التحوّل والدفاع الذاتي. يظلان مثل السياج محميّاً من الخارج نحو الداخل. يقاوم كلّ من الصديق والسياج والدولة المسارات، مخافة الانحلال والاندثار، مستعيضين عن المسار بالنتيجة. إنها لكارثة أن يغدو الصديق نتيجة مباشرة وخطية من دون مسارات، كذلك الدولة النتيجة. كتابة السياج هي النتيجة من دون المسارات. تصبح القوة أضعف من المأمول سياسياً في حالة الدولة، ومن المأمول إبداعياً في حالتي الصديق وكتابة السياج. بئس هذا القول: “ألف صديق ولا عدو واحد”، الذي الألف فيه يعادل الواحد، وطوبى للواحد متغلباً على الألف، مقارنة وقوة.
يعتدّ بالصداقة من خلال مفاهيم الغدر والخيانة والتنصّل، القابلة للتغيير والمقبولة في تبدّلها، إذ تتبدّل من الخيانة إلى الوفاء، بعكس مفاهيم الوفاء والصدق غير المقبولة في تحولاتها، إذ تتحوّل إلى السيئ بحسب العرف الاجتماعي. فيصير الوفاء خيانة، والعطاء تنصّلاً وهلّم.
إذا كان لا بدّ من الاشادة بالصديق فليكن من خلال كسر مفاهيم الصداقة الثابتة المرتبطة بالعفّة والسلوك الاجتماعي. يقدم لك الصديق ما تشتهي فقط، وهو في هذا المعنى العدو المرائي، لا يرغب في تطورك. العدو يريك ما لا تحب. يحضّك على معرفة الصورة الحقيقية لوجودك. هو الصديق إذاً. يتطلب تعايش المفاهيم وتبادلها الصفات سلباً وايجاباً، كسرَ الثبات في مساراتها، وازاحة ما هو مألوف ومتداول في صفاتها، خصوصاً في آليات اشتغالها. يعني كسر تراث المفاهيم والمعاني، أي دحر فكرة السياج. يمنح التعامل مع القديم سيكولوجيا القديم، التي تشتمل على التعصب والتبجيل والتعلّق بالنتائج. تتعاضد هذه المفاهيم في ما بينها مانحة التراث صفة القديم، والقديم صفات التراث. لا يبجّل الحاضر لأنه في طور التجريب. هناك شيئان محترمان في الذاكرة المجتمعية وفي ذاكرة المفاهيم بما يتعلق بالتراث، هما: النتيجة والدليل، إنهما في وحدة اشتغال لا تنفصم. وهما قوّتا متحف المفاهيم والتراث بشكل عام. يشكلان وحدة تعصب واستنفار في صفات الدولة وفي صفات كتابة السياج. السياج كبناية، هو دليل، يُهتدى اليه كشاخص عمراني، وكصفة نفسية حمائية، وخصوصاً السياج في شكله الدائري. لا يكتمل السياج إلاّ بالشكل الدائري. فالحماية دائرية غير أفقية، ولذا تستدعي نقاط مراقبة وترصد، وهذه صفات الدولة المراقبة والمستنفِرة. ثمة عدو مستحكِم في سيكولوجيا الدليل، هو غير العدو الإبداعي. إنّه العدو الأمني المهدّد منظومة الدفاع الرسمي والسياجي. مرحباً بالعدو الإبداعيّ. يظهر السياج في تفكير الدليل حماية كنتيجة تشبه الجوائز. تقدير السياج على اذعانه وانصياعه وقيامه بدور الحماية. هل تعني كتابة السياج في نقطة ما، كتابة الجوائز وكتابة الدولة بالاستعاضة؟
تطمح كلّ كتابة وكلّ وجود حيّ إلى الحماية، وهي نقطة التقاء وتفريق مع كتابة السياج التي تطمح إلى الحماية كنتيجة فقط: الحماية الخطية من دون المرور عبر مسارات متشعبة. تعبير هذه الكتابة هو نتيجة، بينما تعبير الكتابات الأخرى هو مسارات، والنتيجة هي آخر طموحها. تبدأ الكتابات كي تنطلق، وتبدأ كتابة السياج كي تتلقف النتائج، فهي قرينة السلطة والجوائز.
النهار