كتاب: تاريخ الكرد في العهود الاسلامية»: غزو وعنف.. ونبذ الآخر/ منى سكرية
أتعبت الجغرافيا حيوات الشعب الكردي أنّى وجد، وأثقل التاريخ هناءة ترتيب يومياتهم، فولدوا في مساحات متناثرة لم تسجل «عقارياً» باسمهم، فقاتلوا تحت سيوف من مر بهم، وقتِلوا واقتتلوا في ما بينهم، وبينهم وبين مجاوريهم… ورأس العين في شمال سوريا واحدة من هذا اللاندماج؟ في كتاب «تاريخ الكرد في العهود الإسلامية»، لن يألو القارئ جهداً في تتبع انعكاسات المرآة المقعّرة.
لا بد أن الدكتور أحمد محمود شمّو الخليل أثناء عرضه لمعاناة أبناء جلدته من الكرد، وعلى أيدي أبناء أقوام ولدوا منها (عرقياً)، وتربوا معها، وانتموا الى ما اعتنقت، ثم مع من جمعتهم وإياهم في وحدة الدين الإسلامي، قد عانى مرارة التحمل أثناء إنجاز مؤلفه «تاريخ الكرد في العهود الإسلامية» والصادر عن «دار الساقي» و«دار آراس» في كردستان.
أبطال وشياطين!
بعيداً عن وقائع الأحوال السياسية المتقلبة والمتبدلة، والتي تجعل في ثقافتنا المتوارثة، القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي في مصاف الأبطال المحررين في مواجهة غزوات الفرنجة، وتجعل في الوقت عينه أبناء الشعب الكردي في مصاف «الشياطين» إذا ما تطلعوا الى فوق. فإن ما يستوقفنا في كتاب الخليل، اكتفاءه بسرد تاريخي لحقبات نالت من هذا الشعب بقساوة، ُتماثِل تركيبة موقعه الجغرافي القائم على جبال شاهقة الارتفاع، ووديان شديدة الانحدار، وممرات تحمل الموت اليومي، وتقاطعات لدروب حرير وغزوات واستيطان للجبال.
يكتفي المؤلف بسرد تاريخي للوقائع التي أدمت الشعب الكردي، ومحت أشكال ثقافاته، وأية إمكانية لقيام دولة أو حكومة، أو تجمع مديني يوصل عقد هذا الشعب الممتد منذ ما قبل الميلاد، فتوَزَع شعباً كردياً على قبائل تشكل نواة نسيجه الاجتماعي، بين أربع دول تتجاور منطقة «كردستان» (يذكر ان المصطلح استخدم إدارياً في العهد السلجوقي)، مع ما تركه هذا الأمر على مجرى وحدته.
يؤثِر الكاتب، أو هكذا تفيد الوقائع التي أورد وسلسَل، إبراز السلوكيات القتالية لدى الكرد (يفضلها على كلمة أكراد)، وأدواره البطولية في العهود الاسلامية وعلى رأسها معركة حطين «قرب بلدة طبريا في فلسطين حيث دخلت التاريخ سنة 1187 حين حقق صلاح الدين الايوبي واحداً من أعظم انتصاراته على الفرنج».
يقابلها ما يشبه السؤال الدائم: لماذا تعرض هذا الشعب الى كل هذا الاضطهاد من الشعوب غير الكردية، والتي مرت في مناطق عيشه جيئة وذهاباً؟
ثمة ملاحظة أفقدت مضمون الكتاب شيئاً من الدقة والمنهجية في البحث التاريخي، يلمسها القارئ في بعض سرديات الوقائع، وكان يمكن تفاديها، خاصة أن الكتاب صدر في العام 2007 قبل طبعته الثانية بين أيدينا. ومنها على سبيل المثال كيف يمكن للمؤلف أن يستعمل عبارات «على ما أذكر أنه قتل» وذلك في سياق حديثه عن شبلي العيسمي؟ او عبارة «غير متأكد»، الخ… إضافة الى التناغم الروحي مع بطولات وأساطير شعبوية. وربما يقودنا هذا الاستنتاج أن الخليل (مواليد عفرين قرب حلب) يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي وليس التاريخ؟
ثمة استنتاج آخر، ويتموضع في هذا القاسم المشترك لسلوكيات الشعوب الاسلامية بتنوع إثنياتها وذلك في مراحل ممارستها فعل الاحتلال، وبسط النفوذ والقوة، ومن سماتها: العنف، القتل، سمل عيون الخصم، دس السم لأي معارض، الاغتيال السياسي ضمن العائلة الواحدة، ارتكاب المجازر، الفساد، السلطة، الحريم، تلاصق المنفعة المُتسَاندَة بالسلطتين السياسية والدينية.
يؤرخ الخليل لتعرض الشعب الكردي «لتغيير وتحريف هويته منذ سقوط دولة أسلافهم الميديين العام 550 قبل الميلاد» فلم يشهد قيام حكومة من ذاك التاريخ الى أن تشكلت حكومة مسعود البارازاني.
وفي ما يصفه المؤلف بأنه في خانة تذويب هوية الشعب الكردي، تنافس المؤرخون في التشكيك بوحدة هذا الشعب لتنوعه الإتنولوجي وتعدد لغاته، وما محاولات تنسيبهم الى العرب (المسعودي والمقريزي) والى الفرس (العقيدة الزرداشتية المشتركة قبل الاسلام) أو الى الترك، إلا في خانة استقطابهم لهذا الطرف أو ذاك في ميادين القتال وكسب النصر، وصولاً الى إلحاق الدونية بأصولهم، ومنها ما ذكره المسعودي أن الشعب الكردي هو نتاج زواج الشياطين والمنافقات في عهد الملك سليمان! ومثله كتب المؤرخ الكردي الامير شرف خان بدليسي مؤلف كتاب تاريخ شرف نامه في عهد الشاه الصفوي عباس الثاني (1585 – 1628)… ويرى المؤلف من دون ان يجزم أن مصادر هذه التلفيقات إما فارسية ساسانية، أو مسيحية يعقوبية أو نسطورية أو بيزنطية، أو إسرائيليات، مؤكداً على أن أصول الكرد آرية كما هم الفرس والأرمن والسلاف والأروبيون والميد. (تعني كلمة آر بالكردية النار، وبالسنسكريتية النبيل).
وعن كردستان (موطن الكرد كما أفغانستان موطن الأفغان) المجتمع والثقافة ومنها الشخصية، اللغة، الأدب، الدين. ينافح الخليل عن حججه ضد ما أسماه تحامل الآخرين على الكرد، مشيراً الى الملاحم الكردية الأدبية (كتبت بلغات فارسية، أو عربية أو تركية)، والى غنى اللغة وانتشار الفلكلور بسبب انتشار الأمية، واستحالة ازدهار الأدب المكتوب في بيئة غير مستقرة، وإلى تداخل ثقافات الشعوب المحيطة في نسيـج ثقافة الكرد، الذين كتبوا بلغات الأقوى، ودانوا بأديانهم: الزرادشتية، الأيزدية ويصفـها بالغامـضة، الإسلام: سنّة وشيعة والعلي إلهي، والشبك، والقزلباش، ولم يقربوا المسيحية لصراعهم مع البيزنطيين والأرمن، ولتقارب العقائد الزرداشتية مع الإسلام. وتبنوا الصوفية النقشبندية والقادرية، وتوارثوا الرموز الميتولوجية ممن سبقهم، فكانوا نتاج ثقافات متعددة.
بطولات مصادرة!
لم تشفع خرائط ابن حوقل التي نشرها المؤلف طيات صفحات كتابه في تدعيم الدولة الكردية الخالصة، لتشتتها بين امبراطوريات قوية، فأبرَز مآلات ومصائر الكرد تحت حكم هؤلاء، لقد عانوا من العصبية العربية في العهد الأموي بالرغم من «دورهم في الدعوة لآل البيت وإسقاط خلافة الأمويين لصالح العباسيين ومن أبرزهم أبا مسلم الخراساني، والبرامكة، ثم في العهدين البويهي والحمداني، وقد تصارعا للسيطرة على كردستان والكرد، وكانوا مقاتلين مع الحمدانيين ضد البيزنطيين، (يلفت الى أن والدة سيف الدولة الحمداني كردية وقد دفن عند أخواله في ميافارقين في كردستان). ليقول إن «أكثر الشعوب التي ألحقت الضرر بالكرد هم الترك السلاجقة والعثمانيين وإلى اليوم». تراوحت يومياتهم بين احتلال وآخر، فلعبوا دورا في صعود الزنكيين، وتتوَجوا بالدولة الايوبية الكردية، ولقوا «البطش الكثير» في عهد المماليك واجتياح المغول»، وأشعلهم الصراع الصفوي ـ العثماني وقوداً، وُأخضِعوا لتقاسم نفوذ هاتين القوتين في عدة معاهدات (منها معاهدة لوزان 1923 وصك الانتداب البريطاني على العراق)، أعقبها ثورات كردية عديدة انتهت بسبب خلافات القبائل الكردية بين بعضها، وولاءات زعمائها الموزعة هنا وهناك، وبسبب بطش المتصارعين، من دون أن ننسى تحريك قوى الاستعمار لبعض تلك الثورات والمؤرخة في بطون الكتب. (وثائق كتاب مذكرات الفريق صالح الجبوري ـ منتدى المعارف).
وفي حين توافر للشعب الكردي أربع عشرة إمارة على مدى ألف عام من تاريخه، وأبرزها الدولة الايوبية وقائدها صلاح الدين الايوبي، يشير الخليل الى البارزين من أعلام الكرد ومنهم: الموسيقي زرياب، العلامة الموسوعي أبو حنيفة الدينوري، والفيلسوف المتصوف شهاب الدين السهروردي، والمؤرخ ابن خلكّان، والحافظ العراقي وغيرهم.
السفير