كرد سوريا وسؤال المصير/ عماد مفرح مصطفى
يبدو مصير كرد سوريا، أكثر ضبابية واضطرابا، مقارنة مع باقي مكونات المجتمع السوري، حيث تتداخل العوامل الكردية والسورية مع انعكاساتها الإقليمية، كعوائق ومحددات لأي نزعة كردية، تتجاوز السياق السياسي المرسوم لها في المنطقة.
وإذ شكلت الثورة السورية العلامة الفارقة في إعطاء الدفع السياسي، لرغبات ومطالب كرد سوريا في تغيير مصيرهم، بعد انخراط القوى السياسية الكردية في الثورة السورية لأهداف واعتبارات خاصة، حيث وجدت في الثورة، فرصة «تاريخية»، للحصول على حقوقها القومية، إلا أن استمرارية الصراع السوري، وما تبعه من اختلاف أيديولوجي، كشف عن حدة التباين السياسي بين الكرد أنفسهم، الأمر الذي أثر بدرجة كبيرة على سؤال المصير، وقدرة الكرد أنفسهم في تحديد وتقرير مصيرهم.
فبين مشروع «الإدارة المؤقتة»، هو أحد أشكال الإدارة الخدمية والأمنية، المدعوم من قبل حزب «الاتحاد الديمقراطي»، صاحب السلطة الفعلية في الأرياف والبلدات الكردية، وبين مطالبات «المجلس الوطني الكردي» بمشروع «اللامركزية السياسية»، والذي لا يفهم مراميه وأبعاده بالضبط، بكونه لم يترجم إلى صيغة برنامج سياسي واضح المعالم، بات الواقع السياسي لكرد سوريا رهين الاستقطاب الأيديولوجي والتناقض السياسي، مع ارتباط كل طرف كردي بمحور اقليمي معين (تركي أو إيراني).
والحقيقة، أن مصير كرد سوريا لا يتوقف، فقط، على تلك الخلافات البينية الكردية – الكردية التي كشفت عن الطبيعة الأيديولوجية الجامدة لهذه الأحزاب، بل أن التأثير الأهم، يأتي من افتقادهم لعمقهم الوطني السوري، بشكل ما.
نتج ذلك عن انتهازية نخبتهم السياسية، وممارستها للابتزاز السياسي، للوصول إلى أهداف «عقائدية« دون المرور في خانة الصراع السياسي. ترافقت تلك «الانتهازية« مع ما أحدثه العنف من انغلاق أيديولوجي، وابتلاعه ممكنات الحل السياسي في سوريا. وظهور الكرد ككتلة أيديولوجية صماء، لا تهتم إلا بمصالحها الضيقة، مع افتقادها للثقل السياسي الكافي، في إحداث التغيير النوعي، ضمن معادلة الصراع السوري.
ولعل الأداء السيء للأحزاب الكردية السورية، لعب دوراً سلبياً، في عدم تفهم السوريين لطروحاتهم المتعلقة بالمستقبل والمصير، عبر جعل المطالب الكردية نقطة الارتكاز في أي تعاط مع شأن سوري يعيش مأساة إنسانية، ووضع تلك المطالب محل المضاربة والمقايضة على طاولة الأطراف المتصارعة.
واقع الحال، أن الطبيعة المعقدة للصراع في سوريا وعلى سوريا، تجاوز قدرة تلك الأحزاب ومقدرتها السياسية، مثلما تجاوز الصراع إرادة السوريين أنفسهم. لذا، يمكن القول إن مستقبل كرد سوريا لا يتحدد، فقط، بالمزاحمة السياسية والأيديولوجية الحالية في الساحة السورية، بين ما هو قومي أو ديني، أو مذهبي واثني. فهي تتجاوز التنافر المستدام بين الأيديولوجيات «الشمولية« المتشابهة في عوزها وبؤسها، لتصل إلى مراتب تتعلق ببنية الدولة وتاريخيتها، وما خلفه ذلك، من اختلالات في العقد الاجتماعي والهوية العامة للبلاد.
وهو ما يمكن تلمسه في تفاعل المعارضة السورية مع المطالب الكردية، ومواقفها إزاء المصير السياسي للكرد سوريا. إذ لا تجد بعض فصائل المعارضة ما يميز الكرد عن باقي مكونات المجتمع السوري، إلا فيما يتعلق بجزئية «تمايزهم الثقافي». وعلى ذلك، سيتم إشراكهم في «الدولة المدنية»، وفق صيغة عامة «لهم ما لنا، وعليهم ما علينا». حتى مصير الاتفاق الموقع بين «المجلس الوطني الكردي» و»الإئتلاف»، يضعه البعض في خانة الشك والتشكيك، على اعتبار أن الطرفين لا يمتلكان السلطة الفعلية على الأرض. لذا، فمن المحتمل أن يلتحق مصير هذا الاتفاق بمثيلاتها الموقعة بين الكرد والمعارضة في فترات سابقة.
مهما يكن، فأن مصير كرد سوريا يتحدد بنتائج صراع المعارضة والنظام، ومن المعروف أن الانفراج الذي تشهده المسألة الكردية في سوريا، جاء نتيجة ضعف النظام والمعارضة، تبعها محاولة كل طرف زج الكرد في الصراعات البينية لصالحه، وجعل تحركاتهم رسائل داخلية وإقليمية متبادلة، على اعتبار أن القضية الكردية متداخلة في كامل المنطقة، ولها تأثيرات جوهرية على بنية دول المنطقة وكياناتها.
لذا، كان من شأن ربط النظام كل استحقاقات التغيير الداخلي في سوريا، بآلية الصراع الإقليمي، واستجداء التدخلات المتناقضة، لنزع صفة الشرعية والأخلاقية عن المطالبات الداخلية بالتغيير، وإظهارها كمتطلبات «مؤامرة كونية«، أثرها الفعلي والمميز على الحالة الكردية، بإعطائها الزخم الداخلي والخارجي.
إلا أن هذا الزخم تلقفته القوى الكردية بتطويع كرد سوريا كورقة فاعلة في صراعاتهم المزمنة. حدث ذلك من قبل حزب «الديمقراطي الكردستاني« في العراق بدعمه للمجلس الوطني الكردي، مثلما دعم «حزب العمال الكردستاني«، نسخته السورية حزب الاتحاد الديمقراطي. إلا أن الطبيعة العسكراتية والعقائدية لحزب العمال، ساهم في إحداث وقائع جديدة على الأرض لصالح هذا الحزب، وهي بالتالي حددت وقللت، من الخيارات السياسية، المتعلقة بمستقبل والكرد ومصيرهم في سوريا.
تلك الخيارات ربما ترتبط، وبشكل دقيق، بمعادلات اقليمية، ليس أولها، طبيعة وحدود الإنفتاح التركي على كرد العراق، ونتائج عملية السلام الجارية بين الحكومة التركية و«حزب العمال الكردستاني«، الذي قدم نموذج «الإدارة المؤقتة« في المناطق الكردية في سوريا، كرسالة واضحة إلى الحكومة التركية. على أن هذا النموذج، كمشروع إدارة مناطقية، لن يؤثر بشكل نوعي على جوهر الدولة التركية وبنيتها، في حال قيام النموذج نفسه في المناطق الكردية بتركيا.
هكذا، ومع ربط مصير كرد سوريا بمصالح إقليمية حساسة، وباعتبارات تتعلق بهواجس «الأمن القومي» لدى تركيا وايران، واللتين تتبعان سياسة احتواء النفوذ الكردي في المنطقة، فأنه من المرجح أن لا يتضمن أي تفاهم دولي حول سوريا في المستقبل، مشروعا خاصا بكردها، إلا فيما يتعلق بجانب احترام «ثقافة الأقليات».
وأخيرا، فإن المستقبل السياسي لكرد سوريا، لا يتوقف فقط على جملة العوامل الإقليمية والدولية، المتداخلة والمتنافرة. فمهما تناثرت الجغرافيا السياسية والأيديولوجية في سوريا، وابتعدت في كيانات مناطقية وأهلية متباعدة، يبقى المحدد الأول لمصير تلك الكيانات مرتبطا بحال الكيانية السورية وقوتها.
المستقبل