كفرنبل الابتسامة والغصّة
رامي الأمين
لم أزر سوريا البتة في حياتي. لم يحصل أن ذهبت برّاً الى خارج الأراضي اللبنانية، والسبب الأساس جهلي بسوريا، وعلمي اليقين بالنظام السوري. النتيجة أنني لا أزال أجهل سوريا حتى الآن، مع أن معلومات كثيرة بدأت تنساب داخل مخيلتي لترسم صوراً متقطعة عما ستكون عليه سوريا التي أبحث عن التعرف إليها. حتى تلك المناطق التي ترسخت في ذاكرتي، كالشام القديمة التي حدّثتني عنها أمي، وحمص التي لطالما سمعتُ النكات عن ابنائها، ودمشق التي شممت عبق ياسمينها في قصائد نزار قباني ومحمد الماغوط، ظلت بعيدة عن التحقق في الواقع، كأنها كما القصائد، لا تعدو كونها حبراً على ورق. ثم إن هذه المناطق كلها، كانت تتهمش غصباً عن تفكيري، عندما يحضر الحديث عن سجن المزة مثلاً أو مجزرة حماة، أو عنجر في البقاع، أو البوريفاج في بيروت. كانت تتقدم صور التعذيب والتنكيل والإهانات والاحتلال والقمع والقهر والعذابات والآلام والكوابيس والعسكر والسلاح والاستخبارات والجواسيس والكلاب، كلها تتقدم في الذاكرة لتحيل سوريا الخيال على أسفل درك في الدماغ، وتحمل إلى السطح كل ما سلف من كلمات وصفات لا تحتمل الإعادة لثقلها ووقعها المخيف في الأذن وعلى اللسان. بعد اندلاع الثورة السورية سمعتُ بدرعا. ثم طبعاً، بدأت حماة تخرج من قلب الرماد، وإدلب وريف دمشق، وحمص التي راحت تبكينا بدل أن تضحكنا، ودير الزور… وأخيراً كفرنبل. بدا الإسم للوهلة الأولى غريباً جداً، فلم يبد لي مألوفاً، ولا ذا إيقاع سوري، بل أقرب إلى أسماء القرى اللبنانية، ثم تذكرت “وحدة المسار والمصير”، ومع ذلك لم يبطل العجب. فكفرنبل راحت تفاجئني يوماً بعد يوم. أو بالأحرى أسبوعاً بعد أسبوع. مع كل نهار جمعة، تخرج كفرنبل لترسم لي ابتسامة على وجهي، وتضع في صدري غصة يصعب تجاوزها. هذه القرية الصغيرة، التابعة لمنطقة معرة النعمان في محافظة إدلب، كما قرأتُ على الإنترنت، استطاعت أن ترسل إلى العالم بأسره رسائل تجمع ما بين الطرافة والقسوة. نوع من الكوميديا السوداء يستخدمها ابناء هذه المنطقة، ليقولوا لنا إن شرّ البلية ما يضحك، كأن تطالب كفرنبل مثلاً بزيادة عدد الدبابات فيها للتخفيف عن حمص المنكوبة. أو أن تدعو اللهَ لافتةٌ مرفوعة في تظاهرة كفرنبلية إلى فك عقدة لسان الجامعة العربية الخرساء، أو أن تتوجه لافتة أخرى إلى المعارضة السورية بأغنية سميرة توفيق الشهيرة: “وصّلتينا لنص البير وقطعتي الحبلة فينا…”.
من هذا العيار تطلق كفرنبل صرخاتها من قلب سوريا إلى العالم كله، وغالباً بشكل صامت، لا يتعدى كتابة عبارة ذكية على قماشة بيضاء، ورفعها في تظاهرة أو تجمّع، لتلتقطها الكاميرات وترسلها عبر مواقع الإنترنت إلى العالم بأسره. كفرنبل في لغتها الثورية، الساخرة والمحنّكة، لا توفر أحداً، وتصيب مقتلاً من هدفها، فتتوجه إحدى اللافتات مثلاً إلى وزير الخارجية السوري وليد المعلم: “اضبط كرشك أولاً ثم اضبط أمن سوريا…”، أو أن تطلب أخرى من رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان على طريقة هيفاء وهبي: “رجب… حوش صاحبك عنا!”.
هذا ليس كل شيء. لأن كفرنبل رفعت لافتة تضع كل شيء على المحك، وتطالب بسقوط “كل شيء”. هكذا، تعلن بكثير من الصدق والمباشرة أن الثورة السورية ليست موجهة فقط ضد النظام السوري، بل هي ثورة شاملة لتغيير كل شيء بلا استثناء. اللافتة تقول: “يسقط النظام والمعارضة… تسقط الأمة العربية والإسلامية… يسقط مجلس الأمن… يسقط العالم… يسقط كل شيء…”. هل من فلسفة تفكيكية وتحطيمية أكثر من هذه العبارة، التي تختصر مفهوم ثورة الشعب السوري، التي لا تريد التغيير لمجرد التبديل، بل تبحث عن اجتثاث كل الكلاسيكيات بما في ذلك أدوات الثورة ومعارضوها وداعموها؟ كفرنبل صوّبت كثيراً على الجامعة العربية المتلكئة عن اتخاذ مواقف حاسمة من النظام السوري، فأخذت عليها أنها لا تستطيع حماية سفرائها، فكيف لها أن تحمي شعباً كاملاً من بطش نظامه، ووصلت ذروة الانتقاد للجامعة حينما شبّهتها لافتة بأنها “مثل الخيارة…”.
كفرنبل هي النبض الساخر للثورة، بالإذن من حمص وباقي المناطق الثائرة. هي استطاعت أن تصيب مقتلاً من جدية النظام وصرامته. جعلته محل سخرية تحطّم جبروته وطغيانه، فلا يخيفها أن تنقل الى بشار الأسد أن “سوريا ضاقت علينا بك فإما الشعب وإما أنت يا بشار”، ثم أتت الضربة القاضية في لافتة تطيح كل النهج الممانع الذي انتهجه حزب البعث السوري خلال حكمه البلاد لما يزيد على عقود أربعة، واللافتة تقول: “سيدي الرئيس، مؤامرة الي تخلع رقبتك”! الملاحظة التي لا يمكن إلا التوقف عندها، هي إصرار أهالي كفرنبل على توقيع لافتاتهم بـ”كفرنبل المحتلة”، تأكيداً منهم أن ما يطالبون به هو الحرية وانسحاب النظام بكل أدواته وقاموسه وذكرياته من قريتهم الجميلة، التي أسجل هنا وعداً بأن تكون أول قرية أزورها في سوريا وأمكث فيها بعد تحررها.
النهار