صفحات العالم

ما دون الحرب


ساطع نور الدين

انتهت المعجزة ليحل محلها الفراغ والفوضى.

صمود لبنان طوال الأشهر الـ١٤ الماضية من عمر الأزمة السورية كان بالفعل إنجازا استثنائيا خارقا، أثار الذهول والإعجاب بقدرة الفرقاء اللبنانيين على إدارة خلافهم العميق بواسطة الكثير من الصراخ والشتائم والاتهامات من دون ان يستحضروا تقاليدهم الدموية.

هذه الظاهرة الطارئة في التاريخ اللبناني سقطت مع بدء معركة طرابلس الاسبوع الماضي التي تحولت الى بقعة زيت تكبر يوما بعد يوم. وأعلنت جميع الطوائف والمذاهب حالة التعبئة القصوى لأتباعها، الذين باتوا يلوحون بالسلاح الان اكثر من أي وقت مضى منذ انتهاء الحرب الاهلية في تسعينيات القرن الماضي.

واعتبارا من الان لم يعد من المهم ولا من المجدي ان يتم توجيه الاتهام الى النظام السوري بأنه هو الذي قرر ونفذ عملية تصدير أزمته الى الداخل اللبناني. مثل هذا الاتهام هو استحضار غير موفق لنظرية حروب الآخرين على أرض لبنان التي راجت طوال الحرب الاهلية، والتي اثبت اللبنانيون بطلانها عندما برهنوا على ان صراعاتهم الداخلية أقوى وأعمق من مختلف انواع التدخلات الخارجية.

المسؤولية عن الفراغ والفوضى صارت محلية، وهي لم تكن في الاصل الا كذلك. وهذا هو احد اهم دروس معركة طرابلس التي يمكن ان تنسب الى النظام السوري لكنها خرجت عن هذا النسب عندما وقع الجميع في الفخ، وعندما خرج السلاح على هذا النحو المرعب، وعندما فقدت السيطرة على المسلحين ولا تزال مفقودة حتى اللحظة. عندها لم يعد هناك أبرياء او أتقياء، مثلما لم يعد يمكن للمحاسبة ان تستثني أحدا، من تلك الاستعادة البشعة لمظاهر الحرب الاهلية وطقوسها ورموزها.

الخروج من هذا المأزق الجديد يزداد صعوبة يوما بعد يوم، لكنه لا يعني بالضرورة ان الحرب الاهلية صارت على الأبواب. فالصور المخيفة التي ظهرت في الايام القليلة الماضية في طرابلس وفي بيروت وبقية المناطق اللبنانية أحيت دفعة واحدة اشد ذكريات السبعينيات او الثمانينيات إيلاما. لكنها أيضاً كشفت ان الطوائف وأحزابها ما زالت اقل حماسة للعودة الى تلك التجربة، وما زالت اكثر تمسـكا بخـيار الدولـة ومؤسساتها.

لكن هذه الطوائف كانت وستبقى تمارس هواية العيش على حافة الحرب الاهلية، التي تخدم مصالح الجميع من دون استثناء. مثل هذا الإدمان يبدد الكثير من الخوف الذي ساد في الايام والساعات الماضية، لكنه لا يلغي حقيقة ان الفراغ والفوضى هما قدر لبنان وصنوه الوحيد، ومعجزته المتكررة التي تقطعها بين الحين والآخر حالات من الهستيريا الجماعية التي لم يعرف لها مثيل في اي بلد في العالم.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى