صفحات الرأي

كلنا ألمان أليس كذلك؟: دروس حول النازية

 

 

 

كيف يمكن للمدارس الألمانية أن تتعامل مع النازية، إذا كانت جذور العديد من التلاميذ من أصول عربية أو تركية أو إيرانية أو من اوروبا الشرقية، وهؤلاء تختلف علاقتهم مع التاريخ الألماني. كاتب هذه المقالة، وهو من اصل بولوني، قام بتجربة في مادة التاريخ.

الدرس الأول: سكان المريخ، هل يعيشون بيننا؟

وأنا أعدُّ نفسي للمشاركة في درس لمادة التاريخ في إحدى المدارس العمومية بدأت بقراءة المنهاج المُقرر على التلاميذ، الصادر من إحدى دور النشر الكبيرة والمعروفة، وهو يدخل في إطار المناهج التعليمية في العديد من الولايات الألمانية. يحتوي الكتاب على فصلين حول النازية، نجد في أحدهما كاريكاتوراً يبعث فيك الفضول: جدُّ ضخم الجسم يجلس على كرسي، ويوحي بأنه لا يطيق أي اعتراض على ما يقول. يقف أمامه حفيده وهو نحيف صغير الجسم، يرفع رأسه إلى الأعلى بكبرياء، وقد ظهر على وجهه الخوف، لكنه يضع يديه في جيبه. يقول الجد: وفي تلك الأثناء سنة 1933 (ظهر في بلادنا سَكَنةُ المريخ البرونزيّون)، وكانت أعدادهم كبيرة جداً. كانوا يبطشون بالناس وينهبون في كلِّ مكان حيثما وُجدوا. مرَّ بعض الوقت. وفي سنة 1945 اختفى كلّ (سَكَنةُ المريخ البرونزيّون) ولا أحد يعرف، حتى يومنا هذا من أين جاؤوا وماذا جرى لهم. كما نقرأ في الكتاب حواراً مع تركي يُدعى أرسلان، أحرق النازيون الجدد سنة ٢٩٩١ بيته في مدينة مولن (Moln)، وقد أدّى ذلك إلى موت زوجته وابْنَتَيْه، أما هو فقد نجا لأنه رمى بنفسه من نافذة المطبخ المُشتعل.

ماذا ارتكبتِ كي ألقى هذا المصير؟ يسأل أرسلان وهو يبكي فجيعته. عندما شبّ الحريق هرعت زوجتي إلى العتبة لتنقذ الصغار، وبلمح البصر، بدأت ألسنة النار تعلو حتى أني لم أستطع أن أخرج من الباب فقفزت من شباك غرفة النوم، جاءت زوجتي بابننا إلى المطبخ ولذلك نجا وعادت مسرعةً نحو عتبة الباب لكن النار التهمتها هناك مع طفلينا. أسأل لماذا؟ فقد جئنا إلى هنا للعمل، بناء على دعوة، ولم نحاول أن نفرض أنفسنا. أهكذا يُعامل الضيف؟ بعد عدة صفحات نقرأ قائمة بأسماء المنظمات النازية الجديدة في ألمانيا. وإلى جانب بعض هـذه المنظمات نجد تاريخ حظر نشاطها. ولكن مؤلفيّ الكتاب طرحوا القضية وكأنها تحتمل النقاش. فحظر نشاط منظمات بعينها لا يؤدي إلى أن يتخلّى أعضاء هـذه المنظمات عن أفكارهم، بل غالباً ما تحرّضهم على العمل السريّ، بحيث يصعب مراقبة نشاطاتهم. كما نقرأ في الكتاب أقوالاً لشباب من النازيين الجُدُد في التسعينات من القرن الماضي: لماذا تحرقون بيوتاً ينام فيها بشر؟ فجاءت الأجوبة: „سرّحوا والدي من عمله، وشغّلوا “أتراكاً” وتريد مني أن أقف مكتوف اليدين؟“ „هم يحصلون على السكن وعلى مساعدات من الدولة، لا يمكنني أبداً أن أحصل عليها، وهكذا أصبحتُ مواطناً من الدرجة الثانية“.

„إذا كانت الدولة لا تستطيع أن تحلّ هذه المشكلة، سنحلّها نحن.“ كما نقرأ: „نريد بذلك أن نلقن السياسيين درساً“. وفي أسفل الدرس نجد عدة تمارين تحفّز التلاميذ على البحث عن الدوافع التي ذكرها الشبان من مرتكبي هذه الأفعال. وتقترح إجراء مناقشات حول العقوبات. كما تشجّع على الاستفسار حول إذا ما حدث شيء من هذا، أو هل من الممكن أن يحدث ذلك في محيطهم. والحديث عن هذا يمكن أن يجري مع الشرطة أو الإدعاء العام أو مؤسسات شؤون الشبيبة. في نهاية الفصل المخصص لتاريخ ألمانيا الهتلرية نجد صورة مشهورة من انتفاضة الغيتّو اليهودي في وارسو في بولندا. حيث نرى الجنود الألمان يقودون رتلاً من أناس مستسلمين يتقدّمهم صبي صغير. هناك معلومة تفيد بأن الصبي هو الوحيد الذي نجا من الموت من أسرته وهو يعيش في نيويورك. في الصورة نجد ألمانياً حاملاً بندقية إلى جانبه. ومعلومة تفيد بأنه تمّ التحقق من شخصية الجندي هذا بعد 26 عاماً، ومثّل أمام المحاكم الألمانية التي حكمت عليه بالإعدام سنة 1969.

الدرس الثاني: من أنت؟ ألماني صغير … ما شعارك؟

سأقصّ عليك قصة، بدأت السيدة شوميرز نائبة مدير المدرسة ومُدرِّسة اللغة الألمانية في بورتز (Porz): كنا ننفذ برنامجاً للتبادل اللغوي بين التلاميذ مع مدرسة ثانوية في المجر. هل تعلم ماذا قال لي مدير تلك المدرسة؟ أرجوكِ أن ترسلي لنا تلاميذ ألماناً فقط، لا نريد عرباً أو أتراكاً أبداً. نريدهم من الألمان فقط. ولم ينفع معه الكلام أنّ هؤلاء “الأتراك” في مدرستنا غالباً ما يجيدون الألمانية أفضل من الألمان الأصليين. فما قولك في هذا؟ وكان لا بدّ من موافقته، كي أستطيع أن أشارك في درس التاريخ مع الصف العاشر. في الأسبوع الذي سبق اللقاء، التقى التلاميذ بضحايا الحرب وكانوا ضيوفاً قدموا من بيلاروسيا. ماذا يتعلّم الأطفال الألمان عن النازية؟ وما موقفهم من التاريخ؟ طلبتُ من المدرِّسة أن لا أقتصر على حضور الدرس، بل أريد محادثة التلاميذ، لوحدنا بلا مدرّس، غير أنها أبدت تحفّظها اتجاه ذلك. ابتسمت لي وقالت وهي تتفحصني طوال الوقت: أنتَ تحرّك مسائل حسّاسة، وأنا لا أعرف لأي مجلة تعمل، وبالتالي لا أعرف ما يمكننا أن نتوقعه من ذلك. وجاءني العون من حيث لا أدري، من تلميذ بولندي من الصف العاشر الشعبة السادسة اسمه دانيال فقال: ليس هناك ما نخاف منه في الصحافة البولندية. بالنسبة للدروس عن النازية ــ بدأت السيدة شومّيرز الكلام، وكانت قد بدأت ترتاح لشخصي ــ فكما ترى بنفسك، فإنّ 25% من التلاميذ يحملون جوازات سفر أجنبية. أكثر من 60% منهم أحد والدَيه أو كلاهما من أصول أجنبية. فهتلر بالنسبة لهم حكاية من عالم آخر. لا يوجد إذاً أيّ شكل من التماهي مع التاريخ، على أساس أنّ هؤلاء أجدادي، وهذا يتعلّق كذلك بأولئك الذين نسميهم ألماناً …، سترى.

وفي نفس الوقت نجد في الصف الواحد خليطاً من خلفيات عائلية مختلفة. لا أعرف ماذا تتوقع من هذا الدرس. إنّ تمرّد الشباب الألمان في الستينات من القرن الماضي ضد زيف ونفاق آبائهم كان أساسه عاطفياً. كما كان له ما يبرره تاريخياً. أما الآن فليس له مرجعيته. وعليه كيف ندرّس تاريخ النازية؟ لماذا أو لأي هدف ـ إذا أردتَ ـ ندرّس؟ نحن نسعى أن نروي ذلك كتجربة متطرفة ذات طابع شمولي، ولكننا ندرّس كذلك الحرب الأهلية في إسبانيا أو في اليونان. أعدت السكرتيرة القهوة، وبدأ الهدوء يسود بعد أن انتهت الفرصة. بعد لحظة بدأت السيدة شومّيرز تكلمني بإلفة وأريحية. سأكون صريحة معك. فيما تهمّ النازيّةُ التلاميذ؟ هذا ليس عالمهم. هم يهتمون وتبدأ عيونهم تلمع عندما نتحدث في الدروس عن المساواة بين المرأة والرجل. لنأخذ مثالاً من اختصاصي أنا، فلن تجد اليوم من يهتم بغوته أعظم شاعر ألماني. من الجدير بالذكر أن محدثتي خريجة الأدب الألماني وتعمل في المهنة عشرات السنوات و تتكلم دون أي انفعال عاطفي.

في المدن فإنّ ثلث الأطفال إحصائياً من أصول أجنبية، وهم الآن ألمان. حسناً يُمكنك الحديث مع التلاميذ ثم تأتي إلى الدرس. بعد الحديث مع السيدة شومّيرز خرجت عندما بدأت الاستراحة الطويلة. بدأتُ مع ساشا وزميله. وهو يرغب في الدراسة فيما بعد في مجال الإدارة ليصبح موظفاً. وعلى عكس ما يوحي اسمه فإن ساشا ألماني أصلي، واسمه هنا يحظى بشعبية. أنت تقصد الهولوكوست واليهود أليس كذلك؟ سألني ساشا دون لفّ أو دوران، وتابع: طول الوقت نتعلّم عن هذا، علماً أني لا أعرف يهودياً حقيقياً، لا عفواً عندنا بعض اليهود جاؤوا من الاتحاد السوفييتي السابق. أحقاً هم يهود؟ فهم يتكلمون الروسية، وما عدا ذلك لا تفرّقهم عن الآخرين. لحظة … لحظة … كان معنا في الصف أحد هؤلاء، وكنا نشاكسه أحياناً (كان أحياناً يتلقى بعض الضربات) كان من روسيا، ولكن الأتراك قبل غيرهم كانوا ينغّصون معيشته .. تدخّل زميل ساشا قائلاً: „الكلام بيننا، صاحبنا الذي نتكلم عنه هو … قليلاً … بغل كبير … لكنه يتصرف، كأنه في الثانية عشرة. يجلب على نفسه المشاكل. نعم إنه الاستقواء (bullying). اليهود يعرفون كيف يسخرون من أنفسهم، وهذا شيء جيد، ولكن ربما لهذا السبب يقعون ضحايا. وأنا كذلك، ما عداه لا أعرف يهودياً آخر . من الصعوبة بمكان أن أهتم بمصير سَكَنَة المرّيخ.“ من كان يظن أنّ كاريكاتوراً في كتاب مدرسي سيكون حقيقياً بهـا الشكل المخاتل.

الدرس الثالث: الذاكرة على الطريقة الألمانية

أسأل ساشا إذا كان في محيطه أي أثر أو بقايا للجرائم الهتلرية فيجيب: لا أتذكر! كنا في أحد المرات في رحلة لأحد معسكرات الاعتقال النازية. إضافة لذلك قد نعثر أحياناً في بعض الشوارع على مكعب نحاسي مغروس في الأرض … وقد حدّثونا عنه في مادة التربية الاجتماعية، وقد يكون هـذا السبب في أني انتبهت إليه (ضحك(. يسمي الألمانُ هذه المكعبات النحاسية “مطبات” (Stolpersteine) ويقوم بتنفيذها الفنان غونتر ديمينغ بناء على طلب الزبائن مقابل ٥٩ يورو لكل مكعب. ويستطيع من يشاء أن يقتني هذا المكعب ليضعه أمام بيت إحدى ضحايا الاضطهاد الهتلري، على أن يوافق صاحب الأرض طبعاً. ويحفر الفنان على لوحة نحاسية (10*10 سم) لقبَ وتاريخ ومكان ولادة وتاريخ وفاة الضحية إذا كانت معروفة. ويمكننا أن نعثر على هذه المكعبات في أكثر من ثلاثين مدينة ألمانية أو بلدة. ويوضح الفنان مشروعه قائلاً بأنّه يريد أن يُري بأنّ النازية ليست وهماً أو تجريداً، بل هي واقع وصل إلى كل بيت من بيوتنا. يا لها من فكرة!

قالها زميلُ ساشا بغضب وتابع: لأن المكعبات ستُدهس بالأحذية، ولأن النحاس يسودّ فلا تعود ترى شيئا …. أمر غريب. فالمفروض أن نتذكر هؤلاء الناس، بينما ترانا نمشي فوقها كمن يمشي فوق القبور. أغلب هؤلاء الناس موتى بلا قبور، والحق مع ساشا حين يقول: من سينتبه للمكعبات؟ فأنت حين تمشي قرب بيت لن ترى مكعباً صغيراً كهذا، لأنك لا تمشي مخفوض الرأس دائماً. انضمت إلينا السيدة ميشيل وهي مدرّسة لمادة التربية الاجتماعية، التي سأحضر درسها. استمعت للحظات لحديثنا، وكان واضحاً أنها تتحرق لتقول رأيها. أنا شخصياً لم أعش الحرب، قالت وقد استغلت لحظة توقفنا عن الكلام. ولا بد أنّ أباءكم أصغر مني سناً. أعرف من والديّ أن فترة الحرب كانت شنيعة. وكانا يكرران على مسامعي منذ الصّغر، أنه يجب أن نعمل المستحيل، كيلا تبدأ حرب أخرى من ألمانيا. كانت الحرب شنيعة للمدنيين كذلك. لم يكن والديّ نازيّين، ولم يكونا في الحزب، بل كانت أمي تجاهر بمناهضتها للنظام. وقد نشأتُ في جوٍ غرس فيَّ أن أمراً كهذا لا يمكن أن يتكرر. وقد يكون هـذا هو السبب أني أصبحت معلمة، وأني هنا وأتحدث معكم. هنا توجهت إليّ: „الفرصة غير متاحة كي أعلٍّم هذا الدرس كلّ سنة … لكني أستغل المناسبات لأذكّر التلاميذ بذلك. دائماً نتحدث عن هذا الموضوع. وهنا ـ ربما ـ يكمن الفرق بين جيلي وجيلكم“.

لا أعرف ما مرّت به أسرة السيدة ميشيل، لكني سمعتُ كلاماً مشابها من العديد من الألمان. في الوقت الذي يمكننا أن نقرأ في منهاج مادة التاريخ المدرسي الصادر في التسعينات من القرن الماضي، أنّ عدد الألمان الذين كانوا على استعداد لمقاومة النازية يتراوح بين 20 إلى 40 ألف ألماني فقط. من الواضح أن أولئك أنجبوا الكثير من الأطفال الـذين أحتكُّ بهم الآن … عندما غادرتنا السيدة ميشيل ذكر ساشا لقاء تمّ في الصف العاشر مع ضحايا الحرب. ماذا استفدتُ من كل هذا؟ يمكنني اليوم أن أقول بأني لم أستفد كثيراً. فنحن كي لا ننسى، نلوك الموضوع منذ الصف السابع. لذلك لا بد من استغلال كل مناسبة، قال جملته الأخيرة بشيء من السخرية. الآن أيضاً عدنا إلى هذا الموضوع. لدينا شيء عن الثورة الفرنسية والقليل عن تاريخ بُلدان زملائنا، تركيا مثلاً. وبعد ذلك نقتصر على جمهورية فايمار وهتلر، ولكن مع مضيّ الوقت حتى أعتى الجرائم لن تؤثّر فيك. لا أرى أن هذا اللقاء كان ضرورياً. صحيح، أتذكّر أن ذلك قد حصل.

من كانوا؟ بولنديون؟ أوكرانيون؟ لا أعرف! ربما بولنديون. أظنّ أنّنا شبعنا من هذا الموضوع. المشكلة ـ شرع ساشا ـ أنني لا أستطيع أن أتصور تلك الفترة. تعلمنا الكثير، ولكن كان كل شيء عن السياسة. عن الحرب وعن الهولوكوست. أما كيف كان الناس يعيشون آنذاك فأنا لا أعرف. بعد ذلك عندما قابلناهم، كنا منغلقين. وبلغ بنا السبيل الزبى من هذه المواضيع، وسددنا آذاننا لا نريد أن نسمع شيئاً. انضمتْ إلى الحديث بنتٌ كانت تقف جانباً تستمع إلى حديثنا. سأحدّثك عن رحلة قمنا بها في المدينة. ومن بين ما شاهدناه كانت لوحة تذكّر أنه فى سنة 1944 شُنق في هذا المكان بعض عُمَّال السخرة من الذين كانوا يُرحَّلون من أوطانهم ويُجبرون على العمل. عندما بدأ الدليل يشرح لنا كيف أُعدموا كان وجه معلمتنا قد امتقع وبدأت تنوح. أتعلم يا أستاذ؟ أنها الوحيدة التي بكتْ. أنا أرى أن المعلمين يتأثّرون أكثر من اللازم. أرأيت شخصاً يبكي على ضحايا حروب نابليون؟

الدرس الرابع: تاريخ من هذا؟

طلبت السيدة ميشيل مني أن أقدٍّم نفسي وأشرح لماذا أنا في هذا الدرس. موضوع الدرس هو ضيوف من بيلاروسيا. ثلاثة رجال بلغوا الثمانين من العمر يحدِّثون الشباب من خلال مترجمة. كلّهم كانوا من عمّال السخرة في ألمانيا. وواحد منهم كان سجيناً وعُذِّب من قُبل الغستابو. وبعد ساعة كاملة من الاستماع الشَّاق وجّه التلاميذ عدّة أسئلة: „هل كان أحدكم شاهداً على موت شخص؟“ „هل رأى أحد هتلر؟“ „كيف وجدتم أنفسكم بعد العودة إلى أهلكم؟“ كان الكهول يستذكرون التفاصيل بصعوبة، بل كانوا يخطئون في التواريخ. لم يتكلموا عن أي حادثة عنيفة. وكان يطيب للضيوف أن يقولوا إن ألمانيا اليوم ليست ألمانيا الأمس ويتمنون لمستمعيهم ألاّ يواجهوا شيئاً مروّعاً كهذا. بعد هذا كله لم تجد في الصف من يسرع ويلحّ ليتحدّث عن انطباعاته، بل رفض التلاميذ الذين طلبت منهم السيدة ميشيل أن يقولوا أيَّ شيء. وأخيراً قامت سميرة وقالت: تريدون مني أن أعبر عن مشاعري؟ تساءلت. كان اللقاء مشوِّقاً يثير الفضول، لأننا علمنا من بشر من لحم ودم ما كنّا نقرأ عنه في مناهجنا المدرسيّة. لقد تأثرتُ كثيراً. سميرة من الأوائل في صفِّها تلبس بنطال جنز مبقّع بكامله بالحبر، شمَّرته بشكل عبثي إلى ما فوق الركبتين. وشعرها مصبوغ باللون الأحمر وقد أحاط بوجهها . تابعت سميرة: وتأثرت السيدة، التي لا أعرف ما اسمها لدرجة البكاء … „المترجمة“، قال أحدهم. „فعلاً .. لقد بكتِ المترجمة وهي تستمع لهذه القصص وأنا أيضاً تأثّرتُ. حقاً كان لقاء شيّقاً“ „فعلاً. إذا توخينا الدقة فإنّ اللقاء كان مؤثّراً. هل من يريد الكلام؟“ „لا، لا ليس الأمر هكذا“ ـ قالت فتاة ذات شعر أشقر، تجلس مع سميرة على مقعد واحد، بنزق. ربما كان اللقاء مؤثّراً، ولكن لا يربطني به الشيء الكثير. إنه ماضٍ مرّ عليه قُرابة مئة سنة، فما الذي يربطني به؟ ما حدث كان شيئاً مهمّا قطعاً، وما كان يجب أن تصل الأمور إلى هذا الحدّ، ثمّ إنّ الألمان تغيّروا، وليسوا الآن كما كانوا عليه في الماضي. هل انتبه أحد لذلك؟ ثمّ توجهت إليّ: “ألا يعرف ذلك قرّاءُ جريدتك؟“ “وماذا يجب أن يعرف قرّاء جريدتي برأيكِ؟“ سألتها. “أن يعرفوا أني لست أنا الفاعلة. وأنّ هذا ليس تاريخي وليست قضيتي.“

قالت سميرة بعصبية. عليك أن تعرف يا سيدي ـ بدأ الشاب الكردي فرهاد الذي جلس في آخر الصّف بعصبية ـ بأن من يقرننا بألمان الحرب العالمية الثانية فهو شخص مُتحامل. أنت حتماً تعرف كيف تجري الأمور مع الأتراك. قد يرتكب تركي خطأ كبيرا أو حماقة، لكنّ هذا لا يعني بأي حال أن الأتراك فقط يرتكبون فقط حماقات … وينطبق هذا على الألمان. الحروب كانت دائماً قائمة عبر التاريخ وقبل هتلر بكثير وكانت كلها شنيعة، لذلك أرى في الأمر تحاملاً. لم أعد أطيق ذلك. تنفجر سميرة ـ في العُطل في هولندا على سبيل المثال سيأتي من يسألك عاجلاً أم آجلاً ما موقفك من النازية؟ وستجيب دائماً أنّه لا علاقة لك بالأمر. ما علاقتي؟ لقد أجرى ويجري الألمان حساباً مع تاريخهم ـ يشير فرهاد ـ فمن يقول في الشارع هايل هتلر (يحيا هتلر) يُعاقَب، وتتدخّل الدولة الألمانية للحد من ذلك فتصلها إخبارية بذلك وتبدأ المحاكمات … نحن في أزمنة جديدة في حياة جديدة وأجيال جديدة. حتى ضيوفنا هنا قالوا إننا لسنا كما كان الألمان قديماً ـ قالت زميلةُ سميرة ـ والحق معهم في هذا. وتمنوا لنا السعادة. لا يؤاخذوننا. ربما يجب على الأجيال السابقة أن تعتذر منهم، أما نحن فليس لدينا ما يدعو لذلك، ثم أن الرجال أولئك لم يقصّوا أشياء شنيعة عن الحرب. في التاريخ هناك الكثير من الشناعات وليس هتلر وحده من قام بذلك.

الدرس الخامس: جميل أن تكون ألمانياً

يقول توماس: في الحي الذي أسكنه يعيش صينيون وكُرد وعرب وإيرانيون وسود وفرنسيون … الجميع يسكن. لو كانت ألمانيا كما كانت عليه في الماضي لما استطاع هؤلاء حتى أن يجيئوا إلى هنا. وما كانوا ليَسْمَحوا لهم بالدخول لألمانيا. نحن إذاً أمام تاريخ آخر. هتلر يشكل تاريخاً للألمان فقط. يقول بيير. ومن يكون هؤلاء الألمان؟ أسأل. نازيّون. أنتَ ألماني ومع هذا لستَ نازيّاً … أنا نصف ألمانيٍّ ونصف تركيّ، لكن هذا ليس مهماً فألمانيا الآن أفضل بكثير. ألمانيا الآن ديمقراطية. لو كانت ألمانيا كما في الماضي لما كنتُ هنا. ألمانيا تمنح فرصاً للذين يعانون من الحروب في بلدانهم. يمكننا العيش هنا بهناء. حوّلوا في الماضي حياة الناس إلى جحيم والآن يقترحون على الآخرين المجيء إليهم. لقد تغيّر كلُّ شيء. شرف عظيم لي أني أحمل الجنسية الألمانية ــ يقول أبو صامد وهو من أصول كردية ــ وأنا مرتاح لذلك. أنظرْ إلى اللاجئين غير الشرعيين. هل حياتهم حياة؟ أنا أشكر الله أني أحمل الجنسية الألمانية وأنا فخور بأني ألماني.

يعني لو سألك أحدهم في الخارج هل أنت كردي أم ألماني ستجيب بأنك ألماني لا كردي؟ نعم. أنا ألماني لا كردي، ألماني. قد لا يكون مُستحبّاً أن تقول في بولندا إنك ألماني ـ قال فرهاد من باب التخمين ـ لأنك إذا اعترفت بذلك لن تتوفّق كما تتمنى … وأنا أبرِّر هذا. لكني في نفس الوقت أفتخر بجواز سفري الألماني. كم من الناس لا يملكون جوازات سفر. يهربون من مختلف الأماكن ويأتون ويتستّرون ويختفون عن الأنظار. إنه لأمر شنيع! وكيف ينظر البولنديون القادمون إلى هنا لهذا الأمر؟ يمكنكَ الكتابة عن ذلك، يتساءل توماس الذي يظهر على وجهه الهمّ طوال الوقت. لأني شخصياً أفضل أن أعرف شيئاً أكثر عن بولندا بدلاً من كلِّ هذا. لماذا؟ بدأ الجميع يقهقه. عندي مشاكل عاطفيّة، وحبيبتي ليست ألمانيّة بل بولنديّة …

الدرس السادس: النازية كما أراها أي بماذا تفيدني هذه المعرفة

سألتهم إذا كانوا يعرفون عمّا جرى في محيطهم، في بلدانهم الأصلية في زمن هتلر. للحظة لم يردَّ أيٌّ منهم بأيِّ جواب، حتى شرعت سميرة تقول: نحن في أسرتي لا نتكلم عن التاريخ. في إحدى المرات، وبعد أوّل درس في المدرسة عن هذا الموضوع سألتُ جدي، لكنه اكتفى بأنْ قدّم لي كتاباً لكي أقرأه. وتناقشنا حول النُكات عن النازيّة. وتساءلنا حول إمكانية حدوث شيء كهذا. كبارُ السن لا يحبون عندما يذكّرهم أحدٌ بذلك. ــ كما هو معروف فإنّ الكثير من الناس أُجبروا على القتال في الحرب ــ قال فرهاد ــ كانوا مُجبرين نسبيّاً على القتّل. أمّا الآن فنرى الجميع يعيشون سويّة في ألمانيا. سار الكثير من الألمان وراءه لأنّه وعدهم بمستقبل أفضل. وقالوا لهم إنكم إذا شاركتم في ذلك ستَتَحسّن أوضاعكم. فما المانع أن يشاركوا … هكذا البشر … وهذا طبيعيّ.

ولكن إذا جاء شخص ووعدكم بمستقبل أفضل مقابل المشاركة في الحرب، ماذا حينذاك؟ إيه .. لا .. لن يكون في ألمانيا دكتاتورية بعد اليوم ـ يقول فرهاد بثقة ـ كانت البطالة آنذاك متفشيّة وكان هـذا أحد الأسباب. نحن الآن نعرف ويلات الحرب، ولن نكرر هذا الخطأ. الناس في ألمانيا لن يشاركوا في أيّ حرب. كان هتلر قد وعد الناس بأشياء نحن نملكها الآن ـ قالت سميرة ـ وهي ليست مُغرية إلى هذا الحدّ. من الصعب إغراؤنا في هذه الأيام. فعلاً فلدينا اليوم في ألمانيا معونات اجتماعية تكفي للمرء أن يعيش. قد لا تضمن المعونات مستوى ممتازاً للمعيشة، لكنه مقبول على أيّة حال. لم يكن هـذا في الماضي. أظن أن الناس كانوا مجبرين على القتال في الحرب، حيث الجوع والبطاقات التموينية. كان الفرد مُكرهاً على ذلك لأنّه لا بدّ من إعالة أسرته. أتدري ـ قال أبو صامد ـ نحن نقرأ عن ذلك في كلّ سنة وصار الموضوع يتكرر كثيراً فأصبح مُمِلاً وطوال الوقت نسمع الأسطوانة نفسها، الألمان … والألمان. لنأخذْ على سبيل المثال العثمانيين أو الوضع في العراق الآن فهي أيضاً حروب دموية.

على أية حال من الأفضل أن ننظر إلى حاضرنا ومستقبلنا ولا نلتفت باستمرار إلى الماضي البعيد. تجرّأت كاترين قائلةً: المسألة مهمة لي لطالما أسكن في ألمانيا، لأنّ ما جرى في الماضي يتعلق بي. بدأنا بدراسة هذا الموضوع في الصفّ الثالث الإبتدائي واستمر الوضع على هذا المنوال في كل صف. لربما في الأمر شيء من المبالغة ولكنّ يبقى الأمر هامّاً. فعلاً .. قد يكون مفيداً أننا نكرر ذلك ـ قال فرهاد مؤيداً، لأنك حين تسمع عن شيء مرةً واحدة لا تتذكّر شيئاً وبعد عدّة أسابيع تنسى كل شيء. أما الآن إذا جاء شخص إلينا هنا كما تفعلُ أنتَ الآن أو سألك أجنبي ماذا تعرف عن “ليلة السكاكين الطويلة” فأنت تعرف شيئاً ما على الأقل. أعرف ذلك عن ظهر قلب لأني تعلمته في المدرسة.

الدرس السابع: بعد كل حصة مدرسية استراحة

أثناء الاستراحة تحدثتُ مع الشاب باول وصدف أنّ درسهم اليوم كان عن الهولوكوست ومعسكرات الإعتقال النازيّة التي سمع بها لأوّل مرّة. وقد هزته عمليات الإبادة الجماعية لليهود. وبدأ هذا الشاب الأشقر الجذاب، ذو الوجه الطفولي، وهو من أسرة ألمانية غنيّة، بدأ يسألني عن التفاصيل وكيف بالضبط قُتلَ كلّ أولئك البشر؟ بأيّ غاز؟ ماذا فعلوا بالجثث؟ ليقول أخيراً: „قَتْلُ اليهود ليس قانونياً أليس كذلك؟ هذا عمل غير صحيح“. „طبعاً غير صحيح.“ أجبتُ وقد فاجأني السؤال. „ألم يكن آنذاك شرطة أو أيٌّ كان يستطيع أن يُغلق هذه المعسكرات؟“ „كانت الشرطة تساعد في ذلك وكذلك الجيش ومؤسسة السكك الحديدية التي كانت تنقل السجناء أو بالأحرى تشحنهم.“ بدأت أجيبُ بثقةٍ. „يعني أنهم أفسدوا هؤلاء بالمال أليس كذلك؟“ „لا، بل فعلوا ذلك بملء إرادتهم“. هزّ الشاب رأسه غير مصدّق. رنّ الجرس. افترقنا. هل عليّ أنْ أفرح لأنّ هتلر يفوق خيال هذا الشاب؟ أم أشعر بالقلق لأن التربية التاريخية لم تُفلح أن توصل للشبيبة الأوربية صورة عن واحدة من أفظع التجارب.

الدرس الثامن: التراث وثمن الموافقة (الإقرار بالواقع)

في آخر النهار بدأت حديثي مع السيدة شوميرز بالقول: لقدّ ملّ الطلاب من دروس النازية، فليس هناك ما يربطهم ـ كما يرون ـ بالألمان قبل سبعين سنة. ويفضّلون دروساً عن مواضيع أخرى. عفواً أستاذي، ولكن متى كان للتلاميذ سلطة الموافقة أو عدم الموافقة على المناهج التعليمية؟ وتابعت السيدة شوميرز دون أن تسمح لي بحصرها في الزاوية: عفواً أستاذي إذا أردنا أن نناقش بجدية فإنّ الموافقة على العيش في ألمانيا يتضمن الموافقة على تراث ألمانيا بسلبياته وإيجابياته، وهذا أحد أساسيات مناهجنا التربوية. لدينا في المدرسة معلمان تركيّان وفلسطيني وإفريقيّة وهم يساعدوننا في كي نفهم تلاميذنا. وعلاقة التلاميذ بهم أيضاً تختلف عن علاقتهم بنا، فهم يثقون بهم أكثر مما يثقون بنا. سأبيّن لك الواقع كما هو: لنأخذ على سبيل المثال مادة التربية الدينية. لدينا دروس للكاثوليك والبروتستانت وفي بعض المدارس ـ

ليس في مدرستنا ـ هناك التربية الدينية الإسلامية. والآن ماذا نفعل مع التلاميذ الذين لا يريدون التربية الدينية في الوقت الذي يتعلم زملاؤهم؟ نقترح عليهم “اللغة الألمانية كلغةٍ ثانية”. لذلك نرى البوذيين والزرادشتيين يشاركون في مادة التربية الدينية بينما الكاثوليك يشاركون في مادة اللغة الألمانية. كما تعلم فأنا مدرِّسة لمادة اللغة الألمانية، وقد لاحظتُ أن الثروة اللغوية تتقلّص لدى التلاميذ بما فيهم تلاميذ السنة الثالثة الثانوية، بل نجد أنّهم وبكلّ بساطة لا يفهمون بعض المقاطع من منهاج التاريخ فنضطر لشرح بعض الكلمات. هذه هي المشاكل التي نواجهها يوميّاً فهل ستكتب عن ذلك؟

الخاتمة

أُعِدّ هذا التحقيق الصحفي لملحقٍ لأحدى الصحف الكُبرى في بولندا، لكنّه رُفض بحجّة أنّه كما قال مسؤول التحرير، لا يتحدّث عن صف ألمانيّ حقيقي، علماً أنّ الملحق المذكور يروّج لنفسه أنّه “مجلة التحقيقات الصحفية” ويوحي بأنّ نصوصه تصف الواقع كما هو لا كما نتخيله. وقد جري الحوار التالي مع المحرر: „ما الصفّ الألماني الحقيقي؟“ „الصفّ الذي يشارك فيه تلاميذ ألمان حقيقيّون.“ „ومن هم التلاميذ الألمان؟“ „مَنْ آباؤهم وأجدادهم ألمان.“ „عملياً لا يوجد صفُّ كهذا في كل ألمانيا.“ „لا يهم! نحن في بولندا هكذا نتصوّر الألمان. اخترع صفّاً كهذا بغض النظر هل هو موجود أم لا!“ ظهر هذا التحقيق في مجلة شهرية بولندية للمرأة (Em Femme) في تموز 2010.

ستانيسواف ستراسبورغر كاتب وصحفي بولوني يقيم في ألمانيا ويكتب بعدة لغات. له رواية ترجمت إلى اللغة العربية وصدرت عن دار الآداب بعنوان: بائع الحكايات.

ترجمة: سفر يعقوب

حقوق النشر: معهد غوته فكر وفن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى