كلنا عراقيون
حازم صاغية
تقول دعابة، لا تخلو من تنميط وتعميم، عن العراقيين وعن ميلهم إلى الحزن والبكاء، إنّ واحداً منهم التقى صديقاً له في الطريق فسأله: هناك عرس وهناك مأتم، فأين تفضّل أن نذهب؟ لكنّ صديقه لم يتحيّر بتاتاً ولم يتردّد، بل أجاب كما لو أنه يعلن الشيء البديهي: طبعاً نذهب إلى المأتم، فهناك نبكي قليلاً و”نتونس” قليلاً فيما العرس “حقير” و”تافه”.
وأنا أعرف هذا الميل الرومنطيقي الحاد في أصدقاء عراقيين يبكون بسهولة ويصخبون بالسهولة نفسها، وهم قد ينقادون بسرعة إلى ردّ الفعل العنيف لكنهم، بسرعة أكبر، يندمون ويحاولون التكفير عمّا فعلوه. وهذا ما تعكسه أغانٍ وقصائد كثيرة غنـّاها أو كتبها عراقيون عن الحبّ والغيرة والألم والخيانة والحنين إلى الأمّ وسائر الموضوعات التي تنمّ عن هذا الميل الجريح.
وكان علي الوردي، تلميذ ابن خلدون العراقي، قد ردّ “الطباع” العراقية إلى ما سمّاه “صراع البداوة والحضارة” في ما بين النهرين، وإلى قسوة الطبيعة هناك، لاسيّما فيضان دجلة والفرات. والأنهار وفيضاناتها والريّ باستخدام مياهها تستلزم حكّاماً مستبدّين “ينظمون” ناسهم ويؤطرونهم ويُنزلون الألم بهم كما لو أنه واحد من طبائع الأشياء.
وبعد كلّ حساب، فإنّ بلاد الرافدين هي حيث نشأت الإمبراطوريات والحضارات الأولى ثمّ انهارت على رؤوس بُناتها. وفي هذه العمليّات الجبّارة والمأساوية لم تسل دماء كثيرة فحسب، بل امتلأ التاريخ بدمع لا يكاد ينضب في حقبة حتى تجدّده حقبة أخرى كأنه لم يُبكَ مراراً من قبل. فهناك، في ما صار العراق، كان يتصادم الفرس، حين يتجهون غرباً، مع البيزنطيين، حين يتجهون شرقاً. ومن فوق رؤوس الأقوام والأمصار الفاصلة بينهم، تنازع أشوريّو العراق وقدامى المصريين. أمّا صدّ القبائل حين تصعد من شبه جزيرة العرب شمالاً فهو أيضاً مهنة عراقية مبكرة.
وإذا كان السبي البابلي لليهود الذي نفذه نبوخذ نصّر قد ملأ الكون صراخاً، ففي تاريخ أحدث عهداً، اندلع الصراع السني- الشيعي مصحوباً بالعواطف الحادّة التي أطلقها، والتي لم يزدها مرور الزمن إلا حدّة. والعراق، كما هو معروف، مهد ذاك الصراع وبؤرة تأسيسه على شكل حزن عارم ومتجدّد على الحسين بن علي، رضي الله عنه.
وأذكر أنّ العرب غير العراقيين حين كانوا يلتقون في الخارج كانوا يتفقون على أنّ العراقيين أشرسهم وأكثرهم ميلاً إلى العنف، لا ينافسهم في ذلك إلا الجزائريون. فالأخيرون، أصحاب “المليون شهيد”، رفعوا التسمية هذه من مصاف الافتخار الوطني ليجعلوها مصدراً للذة جماعية لا ينافسها في ذلك إلا تعبير “مجاهد”.
بيد أننا صرنا اليوم كلنا عراقيين وجزائريّين. فاللبنانيون، مثلاً، ممّن نُسبت إليهم مرونة مبالغ فيها، وشطارة تجارية تستبعد كلّ تطرّف وجموح، كانوا السبّاقين في افتتاح الحروب الأهلية العربية التي شهدت بعض أبشع الفظائع. أمّا المصريون الذين قدّمتهم السينما وعرّفت بهم النكتة شعباً وديعاً ووطناً هو عاصمة عالمية للدعابة والاسترخاء، فرأيناهم أيضاً يُبدون من العنف ما لم يتعفف عن ملاعب كرة القدم، من غير أن يُتعبه الدم في قرى الصعيد أو في بعض أحياء القاهرة. وها هم السوريون، بعد الليبيين، يغرقون في عنف ينمّ، بين ما ينمّ، عن كبت مديد كانت تستره واجهات كاذبة.
لقد سمعت للمرّة الأولى كلمة “سحل” تقال في وصف حدث عراقي. فعبر هذه الطريقة كان الشيوعيون وأتباع عبدالكريم قاسم، بحسب ما روي آنذاك، يتخلصون من خصومهم الناصريين والبعثيين. وفي وقت لاحق، بات اسم علي صالح السعدي اسماً شهيراً في قتلٍ جماعي تعدّى الشيوعيين إلى سواهم، ممهّداً لبعثي آخر هو صدّام حسين الذي لا تلد بطون الاستبداد مثله إلا بعسر ومشقة.
ومع هذا تولى أشخاص كحافظ الأسد ونجله بشّار، ومعمّر القذافي وأنجاله الكثيرون، كسر الاحتكار العراقي. أمّا نحن، أهل تلك المجتمعات، فشاهدنا الجمال والسيوف تهبط على شبّان “ميدان التحرير” في القاهرة وعلى شابّاته. ولكنّنا شاهدنا في سوريا ما هو أقسى بلا مقارنة، حيث اقتلعت أظافر الأطفال في درعا قبل أن يتعرّض أطفال حمص للقتل. ولا يُنسى أنّ اللبنانيين، وفي وقت سبق هذا التوحّش بنيّف وثلث قرن، قطعوا آذان بعضهم بعضاً في “حرب السنتين”، ثمّ استخدموا في “حرب الجبل” آلات القتل الأولى لبقر البطون.
وكانت عوامل كثيرة قد تضافرت لتغذي هذه الميول، ليس في زعمائنا فحسب، بل فينا أيضاً. ذاك أنّ الحروب الأهلية، وكانت تتهادى ما بين لبنان والسودان، تجعل التوحّش أمراً عاديّاً يمكن تطبيعه والعيش في ظلاله. وبالطبع كان الاستبداد مصدر تخصيب وإغناء لهذا التطبيع، ونحن كانت لنا في الاستبداد مساهمات على نطاق عالمي: يكفي التذكير بحلبجة التي قصفها صدّام حسين بالسلاح الكيماوي، أو بحماة التي اقتلع حافظ الأسد وسطها التاريخي من أساساته. وقد تغذت تلك الحدّة في مجتمعاتنا على الترييف الذي أصاب المدن، مصحوباً بفقدان الشبّان الصغار، على نحو متنامٍ، فرص العمل. وكانت صور العنف التي تنقلها الشاشات من الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، ثمّ من العراق، تذكّي الميول الأشد توتراً واستدعاء للغضب. وفوق هذا كنا كلما تعولمنا، وازدادت معرفتنا بالعالم حولنا، ازددنا اكتشافاً لذوات بدائيّة لا تزال تعصف فينا، ذواتٍ كنا ظننا أنها اضمحلت وذوت. لقد زحفت الطوائف والمذاهب وهبّت، دفعة واحدة، الأديان والإثنيّات من كلّ نوع. وهذا في جوار دول، كالصومال واليمن، فاض عجزها عن ضبط أمنها على جواريها المباشر والأبعد. وفي خضمّ مسائل الهويّة، وتتويجاً للعناصر المذكورة، كانت “القاعدة” التي غطى ما أهدرته من دم فضاء العالم وساحاته. وإلى القتل بقطع الرأس، جاءت الصورة والفيديو يكثفان الفظاعة المتواصلة تلك.
وعلى النحو هذا باتت بلداننا المكان الأمثل للعنف المشاع. وصار العربي والمسلم، في أنظار كثيرين، سبباً للخوف. وفي هذا وذاك، سقط تماماً ما كنا نزعمه استثناء عراقياً، على رغم أنّ العراق لا يزال غارقاً في دم يكاد يبكينا كلّ يوم.
لقد أصبحنا كلنا عراقيين، وهذا ربّما كان شكل الاعتذار الذي نقدّمه للعراق.
الاتحاد