كل السلطة للجماهير , كل السلطة للتنسيقيات
مازن كم الماز
عندما أراد بعض اليساريين التحرريين في سوريا بعد انطلاق الثورة السورية بوقت قصير طرح شعار كل السلطة للتنسيقيات , اعتبر البعض منهم و ممن حاوروهم أن الوقت مبكر جدا على مثل هذا الشعار , حتى أن من يذكره الشعار , أي التنسيقيات نفسها , لم تكن يومها و ربما ما زالت لا تعتقد حتى اليوم أيضا , أن مهمتها هي أبعد من تحرير البلاد من الديكتاتورية أو أن تكون مهمتها هذه هي حكم البلاد بعد إسقاط النظام و ربما حتى أثناء تقدم الثورة , بل أن ما عليه أن تفعله بعد تحرير البلاد من الديكتاتورية هو أن تقوم بتسليم السلطة لجهة ثالثة “منتخبة” , ستكون بالضرورة جزءا من المعارضة التقليدية , هؤلاء الرفاق من اليسار الثوري و التحرري اعتقدوا أنه يجب على شعارات اليسار الذي يعتبر نفسه جزءا من الثورة , يجب أن تكون “واقعية” و أن تقتصر على شعارات الثوار أنفسهم , كان من السهل أيضا اتهام اليساريين التحرريين المنادين بكل السلطة للتنسيقيات بأنهم بطرح مثل هذا الشعار لا يعبرون عن رؤيتهم البعيدة لتحقيق الأهداف التحررية لثورة الجماهير السورية بل فقط عن خشيتهم من صعود قوى المعارضة التقليدية و خاصة الإسلامية أو وصولها إلى السلطة مثلا , تماما كما يحاول النظام أن يستدرج كتلة مهمة من الجماهير السورية بهذه الحجة محاولا تخويفهم من حريتهم و تزيين الاستبداد و القمع و حتى جرائمه و همجيته بحق السوريين , عدا طبعا عن نهبه المنفلت لكل شيء في سوريا و لشعبها , ترافق هذا مع انتقاد البعض لغياب أي دور مؤثر لتلك القوى المعارضة التقليدية عن الفعل الثوري , أقصد توجيهه و “قيادته” , و اعتبار هذا نقطة ضعف “حقيقية” في الثورة , الذي جرى بعد ذلك أنه ما أن أصبح لقوى المعارضة التقليدية نفوذ مؤثر على الحراك الثوري في الشارع و خاصة على قيادته , حتى نقلت على الفور عدوى كل أمراض تلك المعارضة إلى هذا الحراك , مثلا عندما بدأ الحديث عن التدخل الخارجي , توقعنا , مع بعض الناشطين الشباب في الداخل و الخارج , أن تنتهز المعارضة المؤيدة و المعارضة لقصة التدخل الخارجي هذه الفرصة و أن تقدم لنا و للسوريين جميعا نموذجا فعليا عن حوار أو نقاش نقدي حر ديمقراطي يقوم على الاعتراف بحرية الرأي و النقد للجميع و يقدم أولا مصلحة الشعب السوري في انتزاع حريته و استعادة مصيره من أيدي شبيحة الطاغية على مصالحها , و أن تعامل هذه القوى الجماهير السورية باحترام حقيقي خاصة و هي تقاتل و تبذل التضحيات في الميدان في سبيل حريتها أي أن تقدم لها تصورا متكاملا عن التكتيكات التي تقترحها للجماهير لتقرر هذه الجماهير نفسها في نهاية المطاف أين ستسير أي أن تقرر مصيرها بنفسها كما يفترض , لكن الذي جرى كان شيئا مختلفا بالمرة , طالبت تلك القيادات “جماهيرها” و السوريين عموما بشيكات على بياض , لم يقدم أي من طرفي المعارضة , لا المجلس أو الهيئة , أي تصور تفصيلي عن هذا التدخل يشرح إمكانياته الواقعية و تكلفته و مكاسبه للسوريين العاديين , بدلا من ذلك رأينا التراشق بالاتهامات و الشتائم و إطلاق الشائعات , مع غياب أية رؤية تفصيلية تناقش التدخل أكثر من كلام عام يطرح رأي هذه المجموعة أو تلك و كأنه رأي قاطع نهائي لا يحتاج السوريون إلا إلى الاقتناع بصوابيته دون نقاش أو تردد و أن أي موقف نقدي من هذا الرأي يعني إما الوقوف إلى جانب الديكتاتورية أو , حسب تعبير الشبيح بسام القاضي , “الخيانة الوطنية” حسب المتخاصمين , بنفس الطريقة أيضا عوملت قضية الجيش الحر من المعارضة نفسها , كان من الواضح أننا أمام تهميش جديد للجماهير , اغتراب جديد , عن مصيرها , جرى هذا في وقت أصبح واضحا فيه خطأ الثوار المصريين الذين استسلموا “لحكمة” الجنرالات و السياسيين التقليديين يوم 11 شباط فبراير , يوم سقوط الديكتاتور , ليستفيقوا على ثورتهم و هي تكاد تنتهي إلى لا شيء , ليكتشفوا أنه بعد كل تلك التضحيات ما زال النظام السائد يعني قتل كل من يجرؤ على الاحتجاج و المطالبة بحقوقه و بآدميته و سحله و تعذيبه و الاعتداء عليه , و أن السياسيين التقليديين اعتبروا أن الثورة “قد انتهت” بوصولهم إلى البرلمان , أي بوصولهم إلى الحكم كما يفترضون , أما بالنسبة لحرية الناس العاديين و حياتهم فلا يخفي هؤلاء , لا من الليبراليين أو الإسلاميين , المتدينيين أو العلمانيين , أنه على المصريين العاديين أن يتوقفوا عن الشكوى و أن يبدؤوا “بجد” أما بالنسبة لحقوقهم فيجب عليهم الامتناع عن المطالبة بها الأمر الذي يكادون يساوونه بالخيانة و الفوضى حسب منطق شبيحة الأسد أما بالنسبة لحقهم في حياة كريمة , على أقل تقدير , فهو مؤجل إلى وقت غير معلوم , إن الأولوية الآن لاستقرار البورصة و تنشيط الاستثمار و دفع الديون و طمأنة رأس المال , الخ , أما المصريين العاديين فعليهم الانتظار فقط , تماما كما كان المخلوع يطالبهم و يعدهم , في تلك الأثناء لعبت بعض المناقشات مع بعض الليبراليين و الإسلاميين , من الصفوف المتأخرة طبعا , في إيضاح بعض الأشياء , مثلا عندما جرت مناقشات بين بعض رفاقنا و آخرين عما إذا كانوا يرون أو يطالبون بأية امتيازات لأفراد أو لمجموعات ما في سوريا بعد إسقاط النظام , كانوا يردون بأن القضية “رهن بإرادة الشعب السوري” على طريقة “العقد شريعة المتعاقدين” , فهم رفاقنا من هذه النقاشات أن معظم التيارات السياسية و الفكرية في المعارضة , التي حاوروها , ترى أن الديمقراطية تعني بالنسبة لهؤلاء “التنافس على إقناع السوريين العاديين بمنحهم تلك الامتيازات” , “عن طريق صناديق الانتخابات” , كان محاورونا يقولون – “أقنعوا السوريين بأن يمنحوكم تلك الامتيازات و سنحاول أيضا فعل ذلك” , “و ليقرر السوريون أنفسهم في نهاية الأمر” , واضح أن تصرف المعارضة كان يعكس رؤيتها , رؤية النخب السياسية و الاجتماعية عموما , لحرية الناس البسطاء , في مرة أخرى عندما دار النقاش عن قضية الجيش الحر و ضرورة خضوعه للثورة , أي للتنسيقيات , و ليس العكس , و ضرورة أن تتخذ القرارات بشأن عملياته على مستوى الشارع الثائر و ألا يكون مخولا بالتصرف بشكل مستقل عن التنسيقيات و الثوار على الأرض , طرح رفيقنا سؤالا على محاوريه , ماذا لو أن ضابطا سوريا , كبيرا , من جيش الأسد , انشق عنه و قام بانقلاب عسكري , ضابط يساري أو شيوعي , مثلا , هل ستدافعون عن أن يتصرف أيضا بشكل مستقل عن الشارع الثائر , أن يكون فوق السوريين أو الثوار , كان الرد على الشكل التالي , نظرة استغراب , بعض الهمهمات ثم صمت , لم يقطعه إلا تأكيد رفيقنا بأن اليسار التحرري يرفض أن يخضع السوريين اليوم و في الغد للجزمة أو للبدلة العسكرية , لأي ضباط , أيا كانوا , توصل الآن غالبية الرفاق في اليسار التحرري , على ضآلة عددهم كما يجب أن نعترف , إلى أنهم قد تأخروا هم أيضا في طرحهم للشعارات التحررية على الثوار , التي يزعمون أنها تعكس الهدف الحقيقي للشعب السوري المقهور و المهمش و المضطهد عندما ثار على جلاديه في آذار مارس الماضي , إننا لا نرى القضية اليوم في مطالبة المعارضة بأقسامها بأقصى صراحة و وضوح و شفافية و صدق و تنزه عن المصالح الذاتية في حديثهم مع الثوار و السوريين , أو في الرد على اتهاماتها ضد اليسار التحرري , سواء جاءت من الهيئة أم المجلس , و التي بقيت غالبا تحت الطاولة أو نقلت همسا إلى “جماهيرهم” , بل بتثبيت و تأكيد الغايات التحررية و الوسائل التحررية لثورة الجماهير السورية في إطار نقاش حر مع كل ثائر , مع كل ضحايا الديكتاتورية , مع كل حالم و مناضل في سبيل حريته و حرية السوريين جميعا , باختصار , إذا كان من حق الأحزاب و القوى و التيارات المختلفة أن تعمل على أن تحكم الشعب السوري , فمن باب أولى أن تكون الدعوة لأن يحكم السوريون أنفسهم بأنفسهم منطقية إن لم تكن أكثر منطقية من دعوات تلك القوى لأن تحكم هي السوريين , القضية ليست في حق السوريين بالحرية و الكرامة و العدالة , ذلك الكلام الفضفاض المائع الذي يمكن حتى لبعض الطغاة أن يردده , بل في أن يصبح السوريون “سادة” أنفسهم , صحيح أن التنسيقيات بنى أشبه بلجان الإضراب و أنها تتألف من كوادر , أو RANK AND FILE , أي أنها ليست مؤسسات ديمقراطية مباشرة للجماهير بالضبط , لكنها تقترب كثيرا من بنية و وظيفة هذه المؤسسات , و الأكيد أن قمع النظام هو ما يمنعها من تطوير ديمقراطيتها , الأمر الذي يفترض أن يزول بزوال النظام , و الأكيد أن أبطال الجيش الحر هم جزء من الشعب , لكنهم ليسوا فوقه , جزء من الثورة , لكنهم ليسوا الثورة , لا هم و لا أي مجموعة أخرى , لا نعتقد أن كثيرين سيكونون راغبين أو سعداء باستنساخ شبيه للمشير طنطاوي أو للمجلس العسكري في سوريا , نحن نعتقد خلافا للكثيرين أن أجمل ما في الثورة السورية هو أن الملايين اليوم قد تخلوا عن صمتهم و خوفهم و أخذوا يناقشون بحرية و دون حواجز أو تابوهات أو محرمات حياتهم , اليوم و في الغد , هذا لأن الموقف من الثورة يعبر عن شيئين أساسيين , الأول اجتماعي , عندما تنخرط الجماهير التي ينهبها و يفقرها النظام القائم في الثورة عليه , و الثاني هو الموقف من الإنسان نفسه , ليس في صورة القديسين و المصلحين و “الأشخاص المهمين أو العظام” , بل البشر العاديين و البسطاء , الموقف من قدرتهم و حقهم في أن يحكموا أنفسهم , أن يكونوا سادة أنفسهم , بالنسبة لليساريين التحرريين , أناركيين و شيوعيين و اشتراكيين تحرريين , هذه القضية غير قابلة للنقاش , إننا لا نعتقد أن السوريون يموتون اليوم لاستبدال حاكم بآخر , شبيحة بآخرين , طغيان بطغيان , لا نعتقد أن السوريين يموتون لكي يقول شخص ما في الغد كما فعل حافظ الأسد طوال 3 عقود و كما يفعل بشار اليوم , أنا سوريا , نزعم أن السوريين يقاتلون و يموتون لكي تصبح سوريا ملكا لل 23 مليون سوري فيها , جميعا , يعيشون فيها بكل حرية , هذا الافتراض تؤكده عفوية الثورة و تصميم الثوار رغم القمع الوحشي الذي يلاقونه على أيدي جلاوزة النظام , لهذا يقترح عليكم بعض من أبناء سوريا , بعض من أبناء هذه الأرض , أن تحكموا أنفسكم بأنفسكم , أي أن تكونوا سادة مصيركم , كهدف لثورتكم العظيمة ,
كل السلطة للجماهير , كل السلطة للتنسيقيات